مقالات
إنها الفاجعة
فاجعة ليس من بعدها فاجعة ولا من قبلها ، ولا ندري لما يصمت الصامتون فإن الأحداث تسير بوتيرة متسارعة وهي موجهة ضد انسان السودان وكيان الدولة ، بل هي حرب وجودية بامتياز ، والوقوف حيال ذلك لا يقبل موقفا وسطا ، ومن قعد في مقعد الحياد فليحجز مقعده في الجحيم ، فقد تمايزت الألوان وتبين الخيط الأبيض من الأسود من الفجر ، فكيف بإنسان له لسانا وشفتين أن يضع الخمسة في الإثنين ، وهو يري ويسمع ولم يستطع أن ينبس ببنت شفه كأنه مصفد بالأغلال ومكمم الأفواه ، وحتي اذا ما أدان وشجب تكون إدانته وشجبه خجوله ، فينظر إليه شعبه بعين الريبة ويقول بلسان حال ساخر ، أتريد أن تحكمني وأنت بعيدا مني بعد المشرقين والمغربين ، وترفل في الدمقس وفي الحرير في نعيم مقيم ، وشعبك يذوق الأمرين في واقع مرير يتقلب بين جحيم ونار وقذف ويرمي بشرر كالقصر ، فماذا يكون موقفه حيالك ورده لك يا تري ؟ ، حتما سيلعنك مع اللاعنين ويصفك بما فيك ويأتي فوق ذلك بالذي لم يكن فيك ، وفوق ذلك يأتي حارقي البخور ومن يثير الغبار ويجعل بينكم وبين شعبكم كالذين بينهم ثأر ، ذلك بأنكم قوما إتخذتم من شعبكم سخريا أو هكذا فهم ، ذلك لأنكم لم تقفوا بالقرب منه يوم كريهة ولم تواسوه أو تطببوا جراحه التي تطابقت بعضها فوق بعض ، وجزيرة كانت تطعم بعيدها وتكرم قريبها دخل عليها التتار ومزقوا ستارها وشرطوا خمارها وأزالوا سترها وقد كانت مستورة وجعلوها مكسورة ، ثم بعد ذلك صمت مريب فمن صمت ساعتئذ فذاك ديوث متوشح بثياب مومس ، تتعوذ منه الخلائق وتتعجب منه الأفلاك ، فأي أرض تقله وأي سماء تظله ، وحتي لو كان بمعزل فكيف يكلم حليلته ! ويهاتف أهله ، وإن لم يكن يهاتفهم فكيف يقابل حامل خبرهم ، فإن لم يرهم كيف ( يشوف الشافهم ) ، فذلك يوم عثر ، فأي ميدان تريد أن تلعب فيه ، وأي مسرح تريد أن تعرض بضاعتك عليه ، فقطعا سترد عليك وتعود كما عاد إخوة يوسف ببضاعة مزجاة ، وإن كان حال إخوة يوسف قد فعلوا وكادوا بأخيهم فكيف يكون حالك وأنت كدت بأمة وهي تنادي في الظلمات ولسان حالها يقول هل من مدرك فيدركني ، ويمسح آلامي ويزيل همي ، وأنت واضع أصابعك علي أذانك ومستغشي ثيابك كمتحير يلوك بين شفتيه لبانه ولا يقضي ليانة ، متمثلا بقول جحا لم يصل الفساد بيتي وحتي اذا ما وصل بيته يقول لم يصل جسدي ، إنها فاجعة ما بعدها فاجعة ، ثم بعد ذلك وقد حدث ما حدث وقري كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا صباح مساء ، أتاها التتار وجاسوا خلال ديارها وفعلوا فيها الأفاعيل ، وأتوا بمنكر تتعجب منه الأرض شجرها ، وحجرها ، ودوابها ، ثم يقول قائل أيها الطرفان فتلك قسمة ضيزي ، حتي صار حديث العالمين وسخريتهم ، بل هنالك من يكذب ويقول إن الذين يفعلون هم متفلتون ، وسؤالنا المشروع له أين كان هؤلاء المتفلتون قبل وصول المغول ، فيا سادتي هؤلاء هم الجنجويد ، إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ، إنهم محض شر ، وأوباش من نسل النمرود ، فهذا هو حكمهم الذي به يبشرون وديمقراطيتهم التي ينشدون ، أسألوا قري الجزيرة إن كنتم لا تعلمون ، أو أسمعوا الرواة إن كنتم تسمعون ، واسألوا من شهد الوقيعة وهرب من بطن الفاجعة فبالخبر اليقين تعرفون ، ألم يصلكم كيف خرج الناس زرافات ووحدانا من بيوتهم وتركوا ديارهم وذكرياتهم يحملون آلامهم التي أثقلت كاهلهم ، فمنهم من مات حسرة ، ومنهم من أصابه مرض عضال ، وآخر مات بمكان قفر ولم يسمع به ذويه ومنهم من فارق أمه وأبيه وصاحبته التي تأويه ، فقد لاقوا ما لاقوا وذاقوا ما ذاقوا وإنقطع الخبر وعز المخبر ، ثم تأتي بعد ذلك تصافح قاتل أخوك وضارب أبوك وفاعل الممدود والمقصور في شقيقتك أو قريبتك أو بنت جارك الجنب والصاحب بالجنب ، إنها الكارثة التي ليس بعدها كارثة ، فتخيل وليتخيل كل من كان يومها حاضرا تلك الفظائع كيف يكون حال البلاد والعباد اذا ما دان لهم الأمر ، فكل الدلائل تشير بأنهم سيرجعوننا القهقري الي حياة التجارة البكماء ولا نقل حياة البدواة ، فللبدوي حدود وأعراف وتقاليد وقيم وأيام فخر يعدونها وبها يحتفلون ، فقد كان الفتي يصون أهله ويحفظ عرضه ويكون سهما في الذين يريدون خدش كبرياء القبيلة وشموخ نسائها ، فما حدث في دارفور والخرطوم وكردفان والجزيرة منكرا تأباه الفطرة السليمه وتشيب له الولدان ، ويرفضه الإنسان السوي وتحاربه أعراف القبائل السودانية الأصلية ، فالجنجويدي كائن معدوم الإنسانية يسير بسنة البغال والحمير ، ملعون فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض ، فهو ليس له قبيلة ولا ينسب لربع ، وقد أتت به كبسولة الزمن من سحيق الدهور ، وما الجنجويد إلا ما رأيتم وشفتمو فكيف بهم إن صاروا حكاما لأرض بعانخي ومهد الحضارات ، فيا تري كيف يكون الحال ، وإن بعث فاتك الأسدي تبرأ منهم ، وإن سمع بهم المغول لوضعوا أياديهم علي رؤوسهم ، ولو نظر لهم نيرون لقال لهم من علمكم هذا ؟ فيا أيها الناس نحن نمر بمحنة كبري ودرس بالغ الأهمية فإن لم نعي ذلك فستذهب ريحنا ويتخطفنا الطير ، فليقف كل صاحب عقل مع نفسه ويضع خارطة وطنه بين يديه وينظر الي شعبه بين بنظر ثاقب ، ثم يقول نعم لبيك أوطان ، فكل شئ زائل ويبقي الوطن ، فإن النفوس والأرواح كلها الي زوال ويبقي العمل الذي تركته تتناقله الأجيال جيل بعد جيل ، فإما كنت عندها ملعون كأحمر عاد أو كقبر أبي رغال كلما مر به قوم رجموه ، وكتبت مع الذين حق عليهم القول ، أو كنت مع الذين وضعوا بصمة وصاروا بسمة ومشيت بسيرتهم الركبان فكانوا علامات هدي ونجوم صوي في كتاب مرقوم كلما ادلهم الأمر هرع إليه القراء يقلبون صفحاته ويأخذون منه العظة ويتعلمون منه الدروس ، فكونوا مع الذين خلدوا أسمائهم وذكرهم التاريخ في سفره العظيم وكتب عن سيرتهم وفضائلهم ، ولا تكونوا كالذين أهمتهم أنفسهم ولم يذكروا أهلهم ولم يحموا أرضهم فتلاحقهم اللعنات في حلهم وترحالهم ، ولعمري من يفقد وطنه فقد ضربت عليه الذلة والمسكنة ، وهاهو شعبكم ووطنكم في محنة عظيمة ويجب علي الجميع أن يقف مع شعبه فذاكرة الشعب لا تنسي ، وبه ومعه تكون ، ودونه لا عمرا بلغت ولا كلابا ونسأل الله أن يحفظ البلاد والعباد .
محمد عثمان المبارك