البلاد يبنيها بنوها والحل عند أهلها
سأكتب عما مضي وليته عاد ما مضي وكل حياتنا فيما مضي نتحدث عن الماضي ونسئ الي الحاضر حتي أصبحنا فعل ماض ناقص لا محل له من الإعراب فأصابتنا أنة وكل أمرنا ومصيرنا فيه إن وبين أنة وإن فيا بدر لا رحنا ولا جئنا ، فقبل زهاء الأربعين عاما ونيف كتب الشريف حسين طيب الله ثراه الي زعيمه الأزهري في عليائه إذ قال له ، ليتك أبي نظرت إلي البلد الذي حررته فقد أضحي مستعبدا ، ثم أردف ، لرأيت شعبا غير شعبك وأرضا ليس أرضك ، وأهلا ليسوا أهلك ، لرأيت أطلالا يبكي عليها الشعراء ، تعيش فيها أشباح بلا خبز ولا ماء ، جهلة بلا علم ، مستشفيات تعطرها رائحة الموت ، حتي وصل الي قوله أما الأخلاق فقد صارت عملة نادرة ومنقرضة ، وكما نسميه آنذاك بزمن جميل وقد كانت حياته سهلة ورغدا ، ولكنها كانت عين الحصيف الثاقب بصرا والصافي بصيرة فقطعا فقد رأي زماننا هذا وفتحت له الحجب ليرثي زمانا في الغيب وشعب دخل في دهاليز الغيبوبة وسقي نفسه ماء حميما ، وربه خمرا فخامرت عقله فلم يدرك أرضه ولم يستطع أن ينظر آفاقه ، فلم يفق حتي أصابته الفاقة وأحاطت به الفرقة ( بضم الفاء ) وتقسم الي طوائف في كل طائفة مائة فرقة ( بكسر الفاء ) وقد فاء ولم يأتي بفئ ، ورغم ما قال الشريف ولم نك من شاهديه ، فقد حضرنا زمنا بلغنا فيه السعي وكان ساعتئذ بعد إنتخابات العام سته وثمانون وتسعمائة وألف ، إذ طفنا مع رجال أخيار البلاد شرقها وغربها وجبنا معهم شمالها وجنوبها ، فكانوا مصادر حكمة وما أن نزلنا بقعة أو قرية إلا نجد منها وفيها ترحابا وقري ومنازل أضياف وبينهم صوي ورجل قول فعول ، عندهم تحل العقد ولديهم تكون الحلول ، وما أن ذهبت موضعا فما رأيت إذ رأيت إلا ملائكة يمشون علي الأرض هونا وقد صدق شاعرنا العملاق إسماعيل حسن حين قال ( ديل أهلي ) هذا ما رأيناه بأم أعيننا فيمن حضرنا ، وهم يقولون ويحكون لنا أنكم فات عليكم الزمان ولم تعاشروا عباقرة الزمان فإن زمانكم زمن سجمان ولا يقصدون سب الزمان لكنهم يشيرون لمن بالمكان ويرون أن فراقا قد حصل وفرق بين بين أمسهم ويومنا ، ثم نقول لهم ليتكم رأيتم ما حصل ، فقد نزل بساحتكم وبأرضكم الأنبياء الكذبة ، وأقبلت الحرباء في حلتها تتلون كيف تشاء مع موكب الثعالب والضاربات بأرجلهن وبقايا قوم داحرين ، حتي إستوردوا غطاء الجهل فتسربلنا به ، فأوصد العلم أبوابه وانطوي العلماء حسرة حين تمثل بيت الشعر تجسيدا ;
رأيت الناس قد مالوا
الي من عنده المال
ومن لا عنده مال
عنه الناس قد مالوا
عندها قال كاتبنا العظيم الطيب صالح علية الرحمة ( من أين أتي هؤلاء ) إذ لم يقل قولا مرسلا فقد رأي رأي العين يوم أن قلت التجاعيد حين رأي من رأي أن الأثار أصناما وأن الإهرامات فساد عقيدة والمتاحف ترجع الناس لعبادة الحجارة فكانت قطط سمان وبين ذلك وورل في جبة تمساح وفساد كبير ، وصمت من صمت وسكت من سكت وشجر يكبر ومسك يفوح من أجساد بالية وغمام يظلل وبين تكبير الشجر وغزالة طائعة مختارة تطعم المجاهدين بغير حساب ولم يفتح الله حينها علي شيخ راكع أو ساجد بكلمة ولم يلقمهم حجر بقوله تعالي ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) أي وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله ( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ( الإسراء 44 ) إلا من رحم ربي وكانوا حينها قليل ، فعلمت وغيري أننا نسير نحو الهاوية حين ظن كثير من الناس أنه عارض مستقبل أوديتهم فمضي بهم الزمان بمحن واحن وأدخلهم في دياجير مظلمة وليل حلوك ، فجاس فيها المنجمون والربالون والقوادون وسماسرة النهار والذابحون ليلا ثم أشاعوا في الناس أنهم في الوادي المقدس طوي ، ونصحنا لهم ولكنهم لم يحبوا الناصحين ، ثم أنذرنا حتي خلت النذر من بين يدينا ومن خلفنا ، فلم نجد السامعين حتي حطت بنا بين الرحي وثفالها ثم بعد ذلك لم نجد الحكيم ، ففر من فر وهرب من هرب وفيهم من يبحث عن حل عند غير مكتو بالنار فحتما سيزيده نارا ، فالبلاد تحتاج الي وحدة أبنائها وعدالة إنتقالية تضمد جراحها والسمو فوق الجراحات والترفع عن الصغائر ، وكل مصيبة كبري تلد أمة كبري ( عسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) فالصين مثلا قائما ، ورواندا ليست ببعيد ، ومن لم يتعلم من أخطاء الماضي ليس جديرا بأن يعيش الحاضر ، وأمة لا تأخذ العظة والعبر والدورس من التاريخ فيصبح حالها ومثلها كقول الشاعر :
شعب إذا ضرب الحذاء بوجهه
صرخ الحذاء بأي ويل أضرب
محمد عثمان المبارك