رغم فضائلهم، لا يجتمع السودانيين إلا على كراهية بعضهم البعض…
📍مقال دسم جدا…
الدكتور فضل الله أحمد عبد الله…
هذه قراءة متأملة في أسباب سير السودان عكس إتجاه حركة الزمن. وإستنادا على الفرضية التي وضعناها في أعلى المقال لتمثل الشارة العلامية الكبرى أو العنوان الأبرز والأقوى دلالة، على مغذى حديثنا وجوهر معناه…
والتعبير نفسه في الأصل هو إقتباس من قول أحد أهم القادة الإنجليز الذين عملوا في السودان إبان حكم الإستعمار البريطاني، الكولونيل “إرنست سومر جاكسون”… صاحب الإسم، الذي تم به وسم أحد أهم وأكبر الميادين في الخرطوم “ميدان جاكسون”، مجمع توقيف المواصلات العامة في الخرطوم الآن.
تحدث الكولونيل “جاكسون” عن الشخصية السودانية كما رأها وعايشها كحاكم وقائد من قادات مجتمعاتها إبان الاستعمار البريطاني، وكيف عملوا على إعداد طلائع المتعلمين، الذين وجودوا فيهم أصلا إنعدام الشعور بالمسؤولية، وتضخم مساحات الحسد والغيرة فيما بينهم، متنبئا أنهم لن يستطيعوا وبما فيهم من صفات شخصية سالبة في المساهمة على توحيد البلاد، ولا النهوض الثقافي والإقتصادي والإجتماعي.
والمعروف أن الإنجليز في السودان، عاشوا وسط مجتمعاته لمدة طويلة وتحدثوا بلغاتهم ودرسوا عاداتهم وتقاليدهم .
كما كانوا يعملون في ظروف بالغة الصعوبة من حيث وعورة الطرق وبدائية المواصلات ومحدودية الخدمات وتفشي الأمراض في كثير من المناطق النائية .
بالرغم من ذلك كانوا يؤدون واجبهم بحيوية دافقة ، وبمستوى عال من المسؤولية يصلح أن يكون نموذجا يحتذى به في تقديس العمل واحترامه .
كما أنهم – حسب قول محمد أحمد الخضر مترجم كتاب “حكايات كانتربري السودانية ” – أن أختيار الموظفين البريطانيين الذين عملوا في السودان لم يكن عشوائيا فكانوا جميعا يحملون مؤهلات أكاديمية عالية ويخضعون لاختبارات قاسية ومنها اجتيازهم لامتحان اللغة العربية . وقد مكنتهم تلك المؤهلات على معرفة المجتمعات السودانية وطبائعم وأساليب حيواتهم .
ومن أدق الملاحظات المدونة عن السودانيين قالها الكولونيل ” إرنست سومر جاكسون ” ومنها قوله :
” رغم فضائلهم لا يجتمع السودانيين إلا على كراهية بعضهم البعض . ومع ما توجبه الكراهية من بغض وحسد واحتقار وأنانية وعدم تعاون ، فإنهم لن يستطيعوا إدارة وتوظيف موارد هذا البلد العظيم لمنفعتهم العامة .. وأخشى أن يكون إنسحابنا من هذا البلد وبالا عليهم ” …
بذلك قال جاكسون قبيل ساعات جلاء الإنجليز من السودان .
وفي قراءة أخرى لكلام أحد البريطانيين الذين عاشوا في السودان – فاعلا ومتفاعلا – سنوات الحكم الأنجليزي – وذلك من خلال ثنايا حوار مطول أجراه معه الصحفي الكبير ” حسن ساتي ” :
هل حقاً السودانيين يجهلون ، أو ربما يعرفون ويهربون من معرفة أنهم بالفعل ” أمة رديئة ؟؟ lousy nation ” ..
قال لي البريطاني : ” أنا قلت هذا الوصف القاسي على السودانيين لأنني بالفعل أحبهم منذ أن عشت معهم فترات من حياة الطفولة وفترات كموظف لحكومة صاحبة الجلالة ..
أنهم شعب طيب ، خلوق ، حلو المعشر ، يحترم الضيف والأجنبي فى بلاده على غير عادة الأفارقة والعرب الآخرين .. شعب يشعرك بأنك فى بلادك ووسط أهلك ولست غريباً فى بلاده .. شعب يشاركك طعامه مهما كان بسيطاً و متواضعاً مع غيره ، شعب متدين لا يقبل أن يساء إليه فى دينه تحت أي ظرف من الظروف ، حقيقة عشت أمتع أيام حياتي في السودان .
قلت له : توقف هنا قليلاً من فضلك ، هذا الذي وصفته يا رجل شعب ملائكي ، شعب رباني !!
إذن كيف سمحت لك نفسك أن تصف شعباً بهذا المستوى من الرقي ب ” lousy nation ؟ ” ،
قال لي : تمهل يا عزيزي و دعني أواصل حديثي ،
واصل الخواجه حديثه قائلاً : أبي عندما عاد لبريطانيا بعد نهاية خدمته فى السودان تحدث لأسرته عن ذكرياته فى عالم المستعمرات الملكيه ،
وعندما جاء دور السودان أخذ والدي تنهيدة أسى وحسرة وهنيهة من التفكير العميق ،
فقال : السودانيون شعب عظيم فى كل شيء إلا أنهم عديموا ” الوطنيه ” ،
السوداني على كامل الإستعداد ليتنكر لوطنه ويبيعه بأبخس الأثمان ، شعب ” قبيلته ” هي وطنه الفعلي ، وليس السودان الواسع الممتد الكبير ،
السودانيون شعب موبوء وممتلئ ” بالحسد ” ، يحسد بعضهم بعضاً بشكل بغيض ومنفر ،
شعب يحب الخير كل الخير للأجنبي .. ولا يحب الخير حتى لأخيه شقيقه ،
وأضاف الخواجه الكلام الصادم قائلا :
هل تصدق يا مستر ، كان كبار موظفو الدولة السودانيون يأتون لرؤسائهم الإنجليز لتقديم تقارير سيئة للغاية ضد أبناء جلدتهم ، بل كانوا يكتبون تقارير سريه ضد بعضهم البعض والوشاية بالإنتماء سراً للمقاومة ضد الحكم البريطاني ،
وأردف : لو قلت لك كل ما قاله أبي عن سلبيات السودانيين لن تتحمل ذلك ، وأراك ما زلت تنظر إلي بعين الغضب ، المهم فى الأمر ، لخص أبي كلامه عن السودانيين قائلا : ” ذلك بلد عظيم ذا إمكانيات تماثل إمكانيات أميركا ، وشعبه شعب ذكي ومتعلم ولكنه للأسف فاقد تماماً للروح والغيرة الوطنيه وحب الوطن ، عكس باقي الأفارقة .
لذلك تلك الدولة لن تتطور وسوف تذبح بيد أبنائها و تنقسم لعدة دويلات فى نهاية المطاف وستسيطر عليها مستقبلاً جارتها الشماليه سيطرة كامله بمساعدة عملاء سودانيين .
قلت للبريطاني :
ذلك رأي والدك عن شعب السودان ، فما رأيك أنت ؟
أخذ هنيهة تفكير ، وقال لي : ” تماما كرأي أبي ” بل أكثر تشاؤماً منه ، خاصة بعدما رأيت الإنفصال المؤلم لجنوب السودان بتدبير خبيث من أمريكا والغرب .
يا صديقي العزيز أنا حتى اليوم متابع لأخبار السودان ، وما يحدث عندكم أمر مؤسف للغاية ، والسبب الرئيسي أنكم شعب بلا وطنيه ،
شعب بلا مسؤولية ، شعب خائن يخون بلده ويخون بعضه بعضاً .
بلد ذاهب إلى الجحيم and please excuse my bad and tough language ، because I love that country but despise it’s nation- أعتذر لك عن هذه اللهجه الصريحة القاسيه لأنني أحب ذلك البلد وأحتقر مواطنيه لعدم وطنيتهم .
تلك هي من بعض عيون الآخرين عن السودانيين ، والملاحظ أنهم لم ينفوا الفضائل المشهودة عنهم .
وتحت عنوان : ” حين ننظر بعيون الآخرين ” وفي عددها السادس عشر وبتاريخ ديسمبر 1980م حملت مجلة الثقافة مقالة ( عبدالرحيم أبو ذكرى ) الموجعة :
” لقد تعودنا أن ننظر إلى أنفسنا بعيون سودانية بحته ، فالجميل هو مانراه جميلا بعاطفتنا غالبا ، والقبيح هو ما نراه قبيحا بعاطفتنا أيضا .
نقرظ الآخرين أو ندينهم إذا شابهونا في هذا الشيئ أو ذاك ، إنعكاسا لأنفسنا ، أما أذا خرجوا على حذائنا الصيني الضيق فالويل لهم .. الويل .
إننا كشعب له حسنات كثيرة تحدثنا عنها وأطنبنا في الحديث ، وآن الوقت أن نتحدث عن معايبنا ، وأرجو أن تتسع الصدور لهذا . فالكي يؤلم لكنه يشفي في كثير من الأحيان .
لقد تحدثنا عن حسناتنا كثيرا عن إكرامنا للضيف .
شجاعتنا عند الشدائد الأنفة الخ … وكل هذا حق ،
فهل نقبل الحديث عن عيوبنا وهي واضحة لكل محايد . ومنها الكسل والمزاج المتقلب والحماقة
والمسك في سيرة خلق الله مثلا ولا أزيد .
إن الإنسان الذي ينظر إلى نفسه بعيون نفسه فقط ، يشبه سيارة تسير بسرعة هائلة ، وقد أطفأت أنوارها الخارجية وأشعلت أنوارها الداخلية ، فهي ترى بوضوح ما في داخلاها ولكنها لا ترى الطريق أمامها ، والذي تندفع فيه ولابد إذن أن تحدث الكارثة طال الزمن أو قصر .
وتنهض الأسئلة اللازمة في القراءة الكلية للموضوع …
” هل نحن ضحايا أم جناة ؟
أم هو التاريخ الطويل الذي ينوء علينا بثقله ؟
أم أننا نساهم في استمراره ؟ “
وأسئلة أخرى يضيفها ” أبو ذكرى ” :
ألسنا أرض المطر والخير والدعاش ؟
وسليل الفراديس يتهادى شاقا البلاد إلى نصفين غير مساويين ، ولكن كم شجرة توجد في الخرطوم ؟
كم من ملايين الافدنة تبقى قاحلة جرداء تنمو فيها كل خريف ، الأعشاب البرية ؟
لماذا لا نكفي حاجتنا المحلية من كل هذا ونغذي العالم العربي وإفريقيا ما السبب ؟
أليس الكسل ، وإنعدام الهمة وفشل القيادات السياسية المتتابعة وغياب البعد الحضاري عند الفرد السوداني وسوء الإدارة ؟
تلك الأسئلة نستخلصها من مقدمة مقالة الشاعر ” عبدالرحيم ابو ذكرى ” التي كتبها في عام 1980 م وهي مقالة أثارت وقتها ردود أفعال متباينة .
ونجد عدد كثير من الإشارات الأخرى الدالة إلى تلك الوهدة أو العيوب التي – وقعنا فيها وما سمينا – ولا نحاول حتى أن نتخلص منها طوعا واختيار لنلحق بالعالم ألحديث .
وعن أقبح طبائع السودانيين أورد الشاعر محمد المهدي مجذوب في مقالته ” النقد في السودان ” قائلا :
” نعم أصبحت القطيعة كيدا سريا لا يترك واردة ولا شاردة .
وقد وجد الناس متعة عظيمة في القطيعة المتشفية حتى أسموها ” عنكوليب الحديث ” أي أحلى ما فيه إشباعا وتسلية – القطيعة – نقد شخصي جارح ، فإذا سمع المنقود ما قيل فيه ، تصدى للرد مجاهرا بلسان فصيح يعلن عن فضائله .
والقطيعة ضغينة وفتنة في الصدور ، ولا تزول ، ولذلك تحاشى العقلاء نقل القطيعة وإشاعتها بين الناس ” .
وللأديب السوداني العلامة الأستاذ الدكتور ” عبدالله الطيب ” حديث سارت به الركبان ، أنه لم يدرك حسد الأكاديميين إلا بعد أن أصبح مديرا لجامعة الخرطوم في سنوات السبعينيات .
كما للدكتور ” منصور خالد ” كلام عن الحسد عند السودانيين في غاية الطرافة ..
إذ ماثل الرجل السوداني ، بـكلب القرية ، الذي يلهث خلف كل عربة سائرة في الطريق العام ، فإذا وقفت صد راجعاً عنها لينتظر عربة أخرى يجري خلفها .
وعن أسباب الحسد عند الصفوة والنخب من السودانين خاصة ، فاللسير ” جيمس روبرتسون – آخر سكرتير إداري للمحتل الإنجليزي في السودان – وجهة نظر في غاية الوضوح إذ قال :
” إن النظرة للسودانيين المتعلمين كانت ملأى بالشك ، ولم يكن يسمح لهم بالتعبير عن أفكارهم كما لم يهيأوا لمهام مستقبلية . إنهم كحكام شجعوا على التنافس المحموم بين الطائفتين الدينيتين وزعيميهما ، وهي سياسة يعترف بآثارها السلبية على السياسة السودانية ” ..
كما أن مؤسسات التعليم الحديث في ظني ، نفسها ، قد عمقت لهذه الحالة فأساليب التعليم في المستعمرات الإنجليزية هي أصلا كانت لتثبيت الأمر الواقع والأمر الواقع الإستعماري على وجه التحديد .
مؤسسات التعليم الحديث التي أنشأتها الأدارة البريطانية عهدذاك ، رفدت واقع الحياة السودانية بطلائع المتعلمين ، جاءوا إلى العمل العام وهم في حالة من الإرتباك الوجداني ، والإنفصال الثقافي ومن نتائجه كان عدم الإنسجام مع الموروث الثقافي ، بسبب نوع التعليم الذي كان أداة لفرض الهيمنة والاستتباع وإبتلاع الشخصية الثقافية ، وخلخلة ثوابته وأصوله ، خلخلة هائلة .
وأصبح هؤلاء هم محددي مسار المجتمعات السودانية ..
نفوذ الموظف السوداني الذي حل محل الموظف الإنجليزي ، إستمر بنفس النفوذ ، والمكاتب التي جلسوا عليها هي نفس المكاتب ، وكذا حال الأوراق والأجندات التي يعملون عليها ، فقد تغير الحكام ولم تتغير مؤسسات ونظم الحكومة الإستعمارية .
في الواقع أن المتعلمين والنخب السودانية ، توارثوا ثقافة الدسائس والمكائد والأحقاد والحسد ، في دوائر أعمالهم وأنشطتهم العامة .
وأورد ” يحيى محمد خير ” في مذكراته تحت عنوان : ” على هامش الأحداث في السودان ” عددا من الأمثلة والحكايات عن صراعات طلائع الطبقة المتعلمة والإنقسامات بينهم وعن الدسائس وأشكالها وطرائقها ، والمؤامرات وكيفية نسجها ..
وكشف أنه كيف خيمت ثقافة الشلليات والطموحات الشخصية ، ومظاهر الحقد والحسد على دوائر المثقفين ، منذ بواكير القرن العشرين وتمكنت فيها ومن ثم تحكمت في مسارات الحياة السودانية .
وبهذا أخفق طلائع المتعلمين في قيادة السودان بعد خروج المحتل الإنجليزي ، وأصبحت الممارسة السياسية ، إفراز من إفرازات أساليب الشلليات والأطماع الشخصية وحرب الشخصيات وعراك مراكز القوى ومناوراتهم .
ومن أكثر النتائج السالبة في الحياة السياسية السودانية والتي لا تزال مترتباتها تمضي في مسار الحركة الوطنية إلى يومنا هذا ، هو ذلك الصراع الذي حدث بين جماعتي الإستقلالين والإتحاديين ، فقد كان صراعا تجاوز روح إخوة الوطن والزمالة والثقة المتبادلة بين الناشطين في الحركة الوطنية .
أشد ما يحزن المرء أن الحياة العامة السودانية بكل مؤسساتها وتنظيماتها المدنية ، ظل أفرادها في حركتهم ، لا وقود ولا طاقة دافعة للنشاط إلا الحسد والحقد والكراهية بين العاملين في الدائرة الواحدة …
وانتقلت تلك الثقافة بكل محمولاتها من إلى التنظيمات والأحزاب السياسية العقائدية الحديثة ” الشيوعيون ، الإخوان المسلمون ، القوميون العرب ، البعثيون ” برغم تنظيراتهم القائمة على الأفكار والإشتغال الذهني ، إلا أنهم وبحكم الإرث الإستعماري وتركته الثقيلة في الطبقة المتعلمة وطلائع المتعلمين وما خلفه فيهم من نوازع الكراهية بينهم .
فالأيديولوجيات وتقاطعاتها قد أضافت من حدة مشاحنات الصدور وشح الأنفس ، وضمور قيمة التسامح .
فقد إزدات نسب الكراهية والعنف والتحريض ضد بعضهم البعض ، وكذا حدة الصراع وعنفه ..
وتبددت طاقات وإمكانيات صفوة البلاد إلى وجهة غير وجهة تنمية الموارد البشرية وتشكيل المجتمعات السودانية إلى ما يبلغ أعلى سقوف التقدم والإزدهار .
تلك النظريات والأفكار العقائدية ، إعتنقها الأذكياء النجباء من أبناء السودان ، إلا أنهم وبسبب إزدياد مساحات الحسد والتباغض المركوز أصلا في نفوسهم ، وحماستهم الوافرة لها ، عمقت من ثقافة الدسائس والكيد السري والتباري في حرب الشخصيات وتخريب كل فضيلة قائمة .
ويؤكد ” عبدالله زكريا ” أحد المجاييلن لتلك الأجيال ، يحكي في فضائية النيل الأزرق برنامج – مراجعات – حوار ” الطاهر التوم ” وقال :
” كنا في مدرسة حنتوب الثانوية ، وكنت عضوا في الحركة الإسلامية – حركة التحرير الإسلامي – كان الصراع بين الإسلاميين والشيوعين شديدا .
وكنا نحن الإسلاميين كل ما أتى الشيوعيون بشيء أتينا بأكبر منه . إذا قالوا نعمل إضراب نقول : لا نعمل إعتصام .. وإذا قالوا نعمل إضراب عن الطعام .. نقول : لا نكسر السفرة ” ..
وهكذا بالعكس يأتي القطب الآخر معاملا الآخر بذات الأسلوب .
وبهذا فقدت الحركة السياسية السودانية والحياة العامة بكل مستواياتها كثير من قيم النبل والسماحة والتسامح .
والتسامح في جوهر قيمته هو أن تتنازل طوعا ورغبة لمن تختلف معه ، لا مع من تتفق معه .
التسامح قيمته أنه نتاج طبيعي للإختلاف والتباين في التكوين البنيوي في الأفراد والجماعات .
السودانيون برغم إلتزامهم المدهش بفضيلة السماحة والتسامح ، إلا أن مع تراكب منهج الثأرات السياسية والمكائد والأحقاد بين قادة العمل العام والتراجع المستمر والمتزايد ضمرت قيمة التسامح في مجتمعاتنا ، وفقدت توازنها ، وارتبك الوجدان الجمعي كله مما قاد ذلك إلى الإحتكاكات والنزاعات والصراعات الحارقة الماحقة . وبلغ الصراع بين السودانيين إلا ما يعرف الآن ، بصراع ” المركز والهامش ” وذلك نتاج السياسات الخاطئة والتي إنبنت على أسس نوازع الكراهية والحسد الذي بذر بذرته المستعمر الإنجليزي بقصد إستمرارية سياسات المستعمر التخريبية بعد جلاءهم من السودان ويزداد التراجع التنموي والمفارقة المفجعة كما قال “عبد السلام نور الدين”:
المفارقة الفاجعة أنه كلما توغل السودان متباعدا من الفترة الإستعمارية، كلما تقهقر بانتظام إلى الخلف إدارة وسياسة واقتصادا وثقافة عقلانية. وإلى ذلك فإذا كان ثمة شيئ قد تحقق منذ الإستقلال وحتى الآن، يستحق التوقف والنظر، فهو أن الذين حكموا السودان، قد بذلوا كل ما في وسعهم للبرهان على فرضية جد أسطورية، تدحض مبادئ علم الطبيعة التي تقول بأن للزمان بعدا واحدا لا غير، هو الإتجاه صوب الأمام، من الحاضر إلى المستقبل، ومن ثم يصبح من العبث بمكان السير عكس إتجاه حركة الزمن”…
ويبقى قول السير “جيميس روبرتسون” حاضرا… إن النظرة للسودانيين المتعلمين كانت ملأى بالشك، ولم يكن يسمح لهم بالتعبير عن أفكارهم كما لم يهيأوا لمهام مستقبلية جديدة تلبي مستحقات العصر الحديث، إنهم كحكام شجعوا على التنافس المحموم بين الطائفتين الدينيتين وزعيميهما، وهي سياسة يعترف بآثارها السلبية على السياسية السودانية”…
من خلال ذلك التمثيل والإستقراء والإستقصاء يمكن القول، الآن نحن في حاجة إلى النظر في ذواتنا وتشخيصها، والبحث في تصوراتنا وأوهامنا وافتراضاتنا قبل نقد سياساتنا التي قادتنا إلى هذه النتائج الكارثية…
نحن في حاجة إلى النظر فى كل أقوالنا ومفاهيمنا ، بل وأسماءنا وأوصافنا ..