كيف تفهم ؟
عفوا وعذرا فوق عذر سيدي الشاعر لقد كنت متفائلا جدا وطموحا ومتمنيا مستقبلا زاهرا مقبلا علي إفريقيا السمراء فأرسلت كلمات الفرح ورفعت علامات النصر وأنشدت ( إفريقيا طوت الظلام وودعت ومشت مواكب نصرها تتدفق ) ، وقد كان حلما عريضا سرعان ما تبين أنه قد مشي الجهل في عرصاتها وضرب مضاربها وحل بها رهطه وسار في مناكبها يتبختر ، وبعد أن غادرها المستعمر مازالت أياديه تجوس خلال الديار وتنشر الأباطيل وترسل الأقاويل ويتسابق ثلة من أبنائها يخطبون وده ويمسحون ساقه ، وساسة يتقربون إليه زلفي يبتغون الكرسي في بلادهم حتي لو أتاهم علي جسد بني جلدتهم أو من الباب الخلفي أو من طرف خفي غير مهم عندهم عرض أدني أو أعلي أو دون ذلك ، حتي أصبح مثلهم الذي يمشون به حين يمسون وحين يصبحون ( سلطة للساق ولا مال للخناق ) فساد فيها الهرج وعلاها المرج وعم فساد كبير واختلط الحابل بالنابل ، وعلي كل حال قال المادح ( ربي أشغل أعدائي بأنفسهم وأبليهم ربي بالمرج ) ولعل دعوته كانت صادقه فأصابهم المرج ولم يأتي عليهم الفرج ، وحقيقة أنا لا أعرف كنه ( المرج ) ولقد تبين لي بعد التأمل والفحص أنه داء عضال والشفاء منه محال والعلاج منه استحال ومن حاول علاجه أضاع العمر في طلب المحال ، لا أدري أصدقت قولة المناضل جيفارا فيهم أم لا ، أم عنتهم نظرية داروين ، وعلي كل حال مازالوا ينومون كأهل الكهف في ظلام دامس وعند صحوهم لم يرسلوا أحدهم بورقهم الي المدينه لينظر أيها أزكي طعاما فيأتيهم بشئ منه ، بل كانت صحوة مفزوع خرج من عميق الدهور ومن قرون أسطي حضر مظهرا ومخبرا ممتشقا حسامه ومتأبطا آلة الموت مروجا للتجارة البكماء ، فكان بعد المشرقين والمغربين من بني البشر أو ما وصلت إليه البشرية فعاش مع بني جلدته في وادي ويل ، فناكف الجار جاره ولم يكن منافحة برأي بل ضرب وضراب وحرب وحراب وقتل وقتال ، فغني لهم المغني ( الغرز نشابوا ) وكان يقصد شاعرها نشاب اللحظ الفتاك من المحبوب الذي يصيب سويداء القلب ولكن قد تبين أنه نصل قاتل شك به فواد أخيه ومازل يتمثل قول الشاعر ؛
الضاربين بكل أبيض مخذم
والطاعنين مجامع الأضغان
فكانت نتيجتها ( النار ولعت ) ولم تجد من يطفئها، وجاره ينشد ( الدود قرقر ) وقد أرجع نفسه مرحلة الحيوان ولم يقرأ ( باسم ربه الذي خلق ) وهو يمشي في الأرض مرحا ومختالا فخورا رغم أنه لم يدر كيف صنعت الآلة التي بيده وحتي اللباس الذي يواري سوءته لا يعرف كيف غزل وأين نسج وعنده الحياة يأكل كيفما اتفق ، وقاتل ومقتول ، ومنهم من يتخذ هذا المنحي باسم دينه رغم أنه لم يتبين أياته في ذكره الحكيم أو في الآفاق فانطبق عليهم المثل الشعبي ( طير الله في بلد الله ) ولا يعلمون أن للطير نظام وقوانين ولا يتعدها ، وله وكر يسعد فيه ويحميه ويشيده بالحب والحنان ولذا تغزل أصحاب الذوق الرفيع ومن كان قلبه أرق من النسيم وأهش من البسكويت ورمزوا بالحمام للسلام والحب ولذا كان تواجده بالقرب من الحرم الآمن ، ولكن خاوي الفؤاد وميت القلب إصطاده وأكله أو قتله ورماه ولم يذكر حديث المصطفي في كل ( كبد رطبة أجر ) ولم يسمع بعذاب المرأة التي لم تعذب في كبيرة غير أنها ( حبست قطه ) ولكن في بلادي ينحر الإنسان من الأذان الي الأذان وتذبح الإنسانية ولم يطرف للقاتل جفن وفوق ذلك ورغم أنه أعدم خليفة الله في الأرض يقول ( الله أكبر ) ولا يدري أنه من قتل نفسا كأنما قتل الناس جميعا ثم لجهلهم كان ذلك ضربا من الفراسة فأنشد منشدهم( قطاع الرقاب تؤطاها تحت الطين ) وهاهي في بلادنا وفي عاصمة البلاد الرقاب وأجساد مسجية في قارعة الطريق ولم ينظر من يكبر الي الغراب كيف يواري سوءة أخيه ، هذا هو الحال في أغلب أرض إفريقيا البكر فعفوا أيها الشاعر فدعنا أن نقول :
إفريقيا ساقت جهلها وتعممت
والموت عنوان لها ومقام
هذه حياة الذين لا يعرفون في أي قرن يعيشون والي أين وأين البشرية الآن وهم عن الإنسانية مبعدون وحتي عن دينهم الذي به يدينون والعرف الذي به يتعارفون إذ لم يمر بهم أو يقرأون يوما قول الحق ( ،،،، جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) ولا يدرون معني لقوله ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ولا يعرفون أن معناها أحسنكم أخلاقا ولذا أخذ الشاعر قوله منها ( إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ) ولكن للأسف الأسيف لم تبق عندنا أخلاق فكان البيع والشراء حاضرا وليس في تجارة نديرها بيننا بالمعروف ولكنها علي البلد التي نحن قاطنيها بل هنالك من يتسابقون في ذلك حتي لو أهدي أحدهم سيف أبيه ، وفيهم من عمل ( بضم العين ) في أهله وداخل بيته الممدود والمقصور ومازالت مديته في ذراعه ثم يسأله السائل ( لأي يوم هذه المدية ) فيجيب ( لليوم الأسود ) وهو يعيش في السواد ويتسربل به من شعر رأسه حتي أخمص قدميه ، لا تتعجب فكل شئ عرضة للبيع ولكل ثمن ، قل أو كثر نصيبا مفروضا ، وحتي المحافل الإفريقية عرضة للبيع وللشراء ولو تم دعوتهم لكذبة لتسابقوا إليها ما دام الدافع بالقرب من الباب وليس بينهم والسمسار حجاب ، فهم لا يختلفون عن ( مومس صدرها علي حضن رجل وأذنها علي الباب لتسمع من الطارق ) وقد كان مندوب أهل نهيان في الانتظار حاملا الدرهم والدينار فعميت القلوب وزاغت الأبصار وكتبت الصحائف في ختامها ما أراد الآمر الناهي نهيان وسيظل القلم بيده ومن يحرف الكلم من بعض مواضعه ملازما له طائعا لأمره ما دامت سحائبه ماطرة حيث يشاء والله في عون إفريقيا السمراء التي مازال الجهل عندها (يرفع بيتا لا عماد له ) ولله الأمر من قبل ومن بعد .
محمد عثمان المبارك