الاقتصادمقالات اقتصادية
مأمول الشمول التنموي في السودان ( 1 )
الكاتب : دكتور قاسم الفكي علي
- التنمية كمفهوم شامل، يحمل في طياته عناصر مكونات جوانب الحياة والتحولات التي تحدث في منظوماتها للعمل بسعة مجالاتها، ومنها الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، السياسية، والأمنية، لتكوّن الأثر الجمعي المترابط، والمتشابك مع شتى مناحي الحياة الأخرى، ليفضي بالبلاد للنهضة الشاملة المأمولة والرفاهية المادية المرتجاة لجميع أفراد المجتمع، ولكن، بلوغ ذلك ليس بالعملية السهلة، خاصة في واقع بلد كالسودان، تسود فيه أحوال عدم الاستقرار العام على الدوام، بمسببات التآمر الخارجي المدفوع بنزعة الشد والجذب بين الأطراف السياسية والمجتمعية المتعددة فيما بينها بجانب تناحرها داخل أطرها الفردية، أضف لذلك ضغط الحركات المطلبية المسلحة، كل هذه العوامل كانت ومازالت مسببات جوهرية للفشل التنموي المتلاحق عبر الزمن بإفرازاته السلبية من التعقيدات والصعوبات، بل المعاناة بشمولها وسعة معانيها، فأضحت تمثل هذه المظاهر ملامح ثابتة في منظومة الحركة الحياتية للمواطنين عبر السنين، وذلك منذ الاستقلال إلى حاضرنا اليوم.
- أحدثت هذه الرتابة التكرارية، لنماذج الفشل والمعاناة، حالة جمود شبه كامل في التطوير، وساهمت سلباً في إجهاض كل المحاولات السابقة للانطلاق التنموي، للوصول بالوطن إلى فضاءات التقدم والنهضة التنموية الشاملة، وبلوغ رغد العيش المستدام والعادل نسبياً بين جميع السودانيين، فى وطنهم الذى ينبغي أن يستمتعوا بخيراته كلهم مجتمعين وبعدل وقسطاس بينهم، ولا تستأثر به قلة من المقتدرين منهم مادياً، أو بإستخدام بعضهم لنهج الظلم والفساد مالياً وادارياً لسلب الحق العام المشاع بين المجموعة السكانية من المواطنين عبر السنين، وذلك فقط بمبرارت سيطرتهم على مفاصل الدولة وتمكنهم من إحكام القبضة على السلطة فيستخدمونها جوراً ودوماً في إتخاذ القرارات التي تخدم مصالحهم وتعظم من منافعهم من خلال توجيه الحقوق العامة لخاصتهم.
- إنّ تغيير الحال فى السودان إلى الأفضل يحتاج إلى شفافية مطلقة في إدارة الحقوق العامة، عبر وضع أسس جديدة لموازين الاحوال التنموية عامةً، بالأوزان والثقل السكاني، وفق ضوابط حازمة وحاسمة للمتابعة وعقوبات صارمة للتجاوزات الفردية والجماعية لتكون عبرة للآخرين، وبذلك يتسنى إحداث الاختراق وإيجاد المعالجات الجذرية لهذه الصعوبات والمعوقات المثبطة للتنمية ونهوض الأمة، ليتم تجاوزها جملةً وتفصيلاً، ولا يتأتى ذلك إلا بالشفافية المطلقة وعرض كل الأشياء على الطاولة لإحقاق الحقوق، ومعاقبة المجرمين في كل زمان ومكان وحال، وبلا استثناءات أو محاباة ليحصل الجميع على حقوقهم تامةً غير منقوصة، سواءً كان ذلك فرد أو جماعة أو منطقة أو قرية أو مدينة، وفى أيّ ولاية أو إقليم داخل الرقعة الجغرافية للوطن الواحد المتبقى من السودان الكامل القديم، الذى تركه لنا أجدادنا ولكنا فرطنا فيه وقسمناه إلى سودانين، شمالاً وجنوباً، ومع ذلك فضل أبناء المتبقى من الأصل بجغرافيته القديمة، الوحدة القومية اختياراً، على التشرذم بقدر أكبر وبأحجام أكثر وأصغر ، آملين فى تحكيم الجميع لصوت العقل، وإرساء قواعد وأسس جديدة وواضحة المعالم وشفافة تضمن استمرار هذه الوحدة والانصهار فى بوتقة وطن واحد، يسود فيه الرضا والتراضي القومى التام والشامل بين مواطنيه، بالاحتكام إلى الخيار الديمقراطي الحر بعدالة وشفافية، حتي لا تترك ثغرة مرة أخرى فى المجتمعات والمجموعات السكانية المحلية، وفي كل اتجاهات البلاد، يسود عبرها شعور سلبي، بالاستضعاف والتهميش والظلم، فيلجأوا إلى استخدام شتى السبل التي تمكنهم من الإنتصار لأنفسهم وإنتزاع حقوقهم، بما في ذلك التمرد المسلح على الحاكمين، تعبيراً عن مرارة الأحاسيس التي تخالج نفوسهم، مما يرون ويسمعون عن حقائق ظلم الإنسان لاخيه الانسان عبر الزمان في الوطن الواحد.
- كانت النهاية الحتمية لهذا التنازع، كما أشرنا هو انشطار الوطن إلىنصفين، ومازال الباقي من الوطن الام مهدداً، ويواجه ذات المصير، بتخطيط أعدائه لذلك، سراً وجهراً، بل ليلاً ونهاراً، لذات النتيجة، إن لم يتنبه الجميع لذلك، ويتجهوا بصدق إلى تغيير ما بالانفس وما على الأرض عملياً وصرف وجهات واتجاهات التفكير الضيق عن الاعمال الهادمة للبنيان السلوكي للمجتمع والتخريب للملكية العامة داخلياً والعمالة والارتهان من البعض لاعداء الوطن خارجياً.
- فالمطلوب العاجل هو، الاتجاه إلى التفكير بإيجابية ووطنية، بالاتفاق على الوطن كقاسم مشترك ،وجعل فيصل حكم البلاد هو الممارسة الحقة للديمقراطية وحرية الانتخاب والاختيار، الحاكمين من قبل الاغلبية، وبذلك يمكن تأمين الحد المقبول من التداول السلمي للسلطة والتعايش والانصهار بين ابناء الوطن في بوتقة الرقعة الجغرافية لوطنهم الواحد والموحد رغبةً واختياراً.
- إنّ بناء الوطن وإخراجه من هذا التخلف، الذي يقبع فيه حاضراً، يتطلب جهد متعاظم وعمل مضني ومتصل عبر الزمن، يحقق، نتائج إيجابية مترابطة وكبيرة بعيداُ عن تجريب مجربات السياسات الاقتصادية التحررية الليبرالية قديمها وجديده، والتي ألحقت الخراب والدمار بمنظومة التنمية الشاملة في البلاد، طيلة الحقب السابقة، ويعاني الجميع أثرها السالب في واقع حاضر اليوم بضيق في المعايش وتردي في الإحوال على عمومها.
- الحل في النظرة الشاملة لمعالجة المشاكل التنموية فى السودان، ولا يمكن أن يحدث أبداً بالتقديرات والرؤية الشخصية، بتغييب العلمية فى التخطيط التنموي والذى يسهم بفاعلية في إعداد الخطط العلمية العميقة، بإتباع مناهج وأدوات التخطيط العلمية المتعارف عليها عالمياُ وتمنح فيها درجات علمية، تمكن حامليها من التعاطي تطبيقياً مع مستويات التحديات التنموية القومية للدولة، وبذلك يمكن نقل الوطن إلى الوضع المثالي المطلوب، بالتغيير الجذري لحال الواقع غير المرغوب فيه حالياً، والذي بلغ تدرهوره قمة درجاته على الإطلاق، ممثلاً في الأحوال الصعبة التي نعيشها اليوم، وذلك قياساً على الأحوال العامة التي سادت الفترات السابقة الممتدة عبر السنين منذ الاستقلال.
- لذا، فالضرورة والصيرورة الطبيعة لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة بالتقادم تقتضيان، تحويل واقع الوطن بأهلية موارده الطبيعية المتنوعة، والبشرية المتميزة، إلى حالة وواقع وضع مرغوب فيه، من خلال تغيير المفاهيم الذهنية وأطر المحتويات التطبيقية، تمهيداً للقيام بانتفاضة وثورة تنموية شاملة في البلاد، لا تبقى ولا تذر من المشكلات، لتقدم نتائج ملموسة على الأرض، قابلة عبر الزمن لقياس أدائها، لضمان تحقيق معدلات متصاعدة ومستمرة في الإنتاج والإنتاجية، في بعد كمها وكيفها ونوعها، والتي ينبغي أن تغطى جميع المجالات المتسقة مع الإمكانيات المحلية للبلاد، لتحدث تغييرات إيجابية شاملة في الهيكل والبنيان الاقتصادي والاجتماعي، وتقدم نوعية رفيعة من السلع والخدمات، للمواطنين لاستهلاكهم المحلي كحقوق وليس إمتناناً عليهم، بالإضافة لإيرادات مقدرة من العملة الحرة، من الصادرات السودانية النوعية للخارج، لتنعكس في حجم دخل قومي كبير، يوزع بعدالة، وتنال كل ولاية وكل مواطن فيها نصيبه المستحق منه، وذلك حقيقةً وواقعاً لا مجازاً ووهماً، بحسابات المتوسطات على الورق.
- للتحقق من مخرجات الجوانب المشار إليها عاليه، وأخرى لم يرد ذكرها هنا، لضيق المساحة والزمن ومحدودية محور الموضوع وضرورات الموضوعية في الطرح، ينبغى قياس الأداء الاقتصادي بإستخدام المؤشرات الاقتصادية وغير الاقتصادية، مثل نسبة الناتج الصناعي في الناتج القومي، نسبة الصادرات الصناعية في جملة الصادرات، نسبة العمالة في القطاع الصناعي في العمالة الكلية، بجانب وضع معايير قياسية للتأكد من ايجابية الأداء في الصحة، التعليم ، التغذية، نوعية الحياة للفرد السوداني عامة، وبذلك يكتمل واقعاً البناء التنموي الراسخ، وتتحقق صورة الوطن الذي تتوجه أحلامنا وأشواقنا إليه، بإنجازاته حقيقةً وأثراً لا خيالاً وشعوراً، وبذا يغدو سوداننا رقماً يصعب تجاوزه ومصدر فخر وتفاخر لنا بين الأمم…. سنواصل في سلسلة باقيات مكتوبات الموضوع لتتساقط قطراتها على صخور المشكلات التنموية في السودان، وحتماً ستحدث فيها إختراقاً، ليس بقوة طرحها بل بإتصالها وتواصلها تباعاً واستمراراً، لذلك فلنا عودة والعود احمد..