من باع الوطن ؟
أصلها ثابت وفرعها في السماء وسامقة وشامخة دوما وجذورها ضاربة في الأعماق ، سامية مقدسة حض علي حمايتها كل كتاب منزل ولوح في نسخته هدي ونور ، ولا يدرك كنه ذلك إلا صاحب البصر الثاقب والمتفكر في آيات الله في نفسه وفي الآفاق ، إنها شجرة أصيلة مرتبطة بزمانها ومتمسكة بمكانها ، لا تأبي بظلها علي من حولها حتي لو كان الصيف يحتضر ولا يمكنها أن تغترب أو تغرب ولا يمكن أن يأخذها صاحبها لأرض أخري ليستظل بها ، حتما من أراد ذلك أو قال به لا يجد سوي ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب ، فإنه سادتي ذلكم هو الوطن مثله مثل شجرة ظليلة في فناء بيتك فإن هجرته وهاجرت منه لا تهاجر معك فهي بالمكان إرتباطا عميقا وللأرض حبا ووفاء فقد كان رسولنا الكريم وهو المرسل للعالمين رحمة ونذيرا ومأمورا بالهجرة حينها وصف مكة بأحب البلاد إليه ، وقد سما الذكر الحكيم وثني علي ذلك الرسول الكريم ووصف من مات دون أرضه شهيد وذلك لعلو مكان الوطن ومن فقده مصابه جلل وحل به ذل مقيم ومكث فيه ألم مقيم وكم من رحل عن وطنه أو ظلم في أرضه فارق الحياة من غبن أو ذهب عقله من نازلة أو بات في كآبة من ذل ، فنوائب الزمان كلها لا تضاهي نائبة ألمت بالوطن ، فهو الأم الحنون ، فكيف تأتي بمثلها ، فإن أصابت أمك صروف الزمان فهل لك غيرها ، وإن أصابها سقام فهل تتخلي عنها ، وإن رحلت فمن يملأ مكانها ، قطعا ضعف الطالب والمطلوب ، فالأم هي الوطن ثم قيل ثم من ؟ قيل أمك ، ثم قيل ثم من ؟ قيل أمك ، ثم قيل ثم من ؟ قيل أمك ، فأي عظمة هذه وأي مكانة هذه ، فمن فقد وطنه فقد أمه ، ومن فقد وطنه خفت موازينه ونقص مقداره ، وقل وصفه من صاحب أرض يمشي فيها كيف يشاء إلي لاجئ تحت رحمة آخرين ، يسقي كأس الحياة بذلة فذلك لعمري الموت البطئ ، ففي بعض البلاد سموك مهاجر ، وفي أخري تأفف منك صاحبها ، وعشت في غربة لا النفس راضية بها ، وتري في أعين الناس لا مرحبا بك ، فإن إبتغيت عزا فعش في وطنك فلا عز دونه ، فهو غطاؤك في يوم زمهرير وظلك في يوم حرور ، تعرفك الأرض وتذكرك الشوارع ولك فيها أيام واعياد وفرحة ، هنا كان أبوك ، وهنا مات أخوك ، وهنا نشأ عمك وأبوك ، وهذا منزل خالك وأمك وبنت أخوك وهنالك قبور أجدادك وتاريخ مجيد ، فهل فوق ذلك إرتباط ، فمن فك ذاك الوثاق حتما ضربت عليه الذلة والمسكنة وباء بغضب العالمين وسيظل في هوان حتي يدركه اليقين ، فمن فقد وطنه مات بمكان قفر وقل بواكيه ، فمن يذكر فضله وهو غرئب الوجه واليد واللسان ، ومن يقف علي قبره وقد باعدت الأسفار بينه وبين عارفي فضله ، من يعرف مكانته ومعزته عند أهله ، من يعرف مناقبه ليدعو له ، كل الأهل غياب ولا صحاب حضور ، فتلك هي حسرة كبري ويوم عسر ، فالوطن يستحق ودينه واجب السداد وجزاؤه هو جزاؤه عند رب العباد ، فنقبوا في البلاد وأنظروا كيف حال من فقد وطنه ، فالوطن عز وتاج رأس فكيف لمن سقط تاج رأسه وذهب عزه فحتما قد حبط عمله ومكث في العذاب المهين ، لذا فأرفع النداء عزيز أنت يا وطني لتكتب لنفسك الحياة بعزة في وطن تعلو فيه رايات الإنسانية والسلام وليكن هم أبنائه ، كل أبنائه أن يضعوا الأيادي فوق بعضها لحفظه من صروف الزمان فقد عاني شعبنا الأمرين وسقوا ماء حميما وذاقوا عذاب الهدهد فكيف اذا طال عليهم الأمد ، فلنجد الخطي ونسعي بجد لإخراج الوطن من تحت الركام لننعم بالحياة ونعيش الأمان ، فلا يعمر الأرض إلا بنوها ولا يخربها إلا عدوها ، فكونوا لبلادكم حصنا ووجاء قبل أن تحرق النيران ما تبقي ، وأعلموا أن علاج جراحكم بأيديكم ، فلا تستعينوا بمن يزيدكم حطبا وكيف تجدون حلولا عند الذي بلاده تعج بالمشاكل فمثله كمثل صاحبة الموس التي نعلم ، وانظروا لشعبكم الذي دفع الثمن وستعرفون حينها من باع الوطن .
محمد عثمان المبارك