أيها العنصريون توقفوا .. أفسدتم علينا وطننا..
كتب الأستاذ محمد الحسن محمد عثمان
قال:
(حكي لي أحد الأطباء الجراحين) أنه جاء للدراسة في جامعة الخرطوم أواخر سبعينيات القرن الماضي .
وكانت هذه هي زيارته الأولى للخرطوم بل كانت الأولى التي يغادر فيها قريته القريبة من مدينة النهود
قال لي حضرت إلى الخرطوم وفي يدي متاع قليل وبضع جنيهات وهي كل المبلغ الذي استطاع والدي عامل اليومية البسيط أن يدبره
وكنت أكبر إخواني سنا في عائلة تضم سبعة من الإخوة الأخوات
وشاء الله أن يهبني ذكاءا فطريا فتفوقت في دراستي رغم بساطة مدرستي وظروفي
ويواصل. (عندما
تم قبولي في كلية الطب كنت بين خيارين فقد كنت مدركا لظروف والدي المادية
ومصاريفي الدراسية كانت سترهقه فهي زيادة عبء عليه لن يستطيع تحمله وكان إما أن أبقى معه لأساعده في تربية إخوتي أو أذهب إلى الدراسة) فاخترت ووالدي أن أذهب للدراسة ونتركها لله سيديرها بحكمته
قال لي: عانيت الأمرين في مدينة ليس لي فيها أحد
وكان لابد أن أساعد نفسي بنفسي بل وأساعد والدي لمقابلة مصروفات إخوتي
وعملت في مهن هامشية حيث غسلت الأواني في مطعم وبائعا للصحف وكنت أذهب راجلا لتوزبع الصحف علي بعض المحلات التجارية حتي اعتمد علي أصحاب هذه المحلات في إحضار الصحف إليهم وكان صاحب أحد المحلات طلق المحيا بشوش الوجه ينادونه (حاج مختار)
كريما معي يعطيني أكثر من ثمن الصحيفة ويعاملني برفق شديد
ويواصل… وحدث أن تغيبت ذات مرة عن إيصال الصحف إليهم بسبب الإمتحان وعند عودتي سألني هذا الرجل اللطيف عن سبب غيابي؟
قلت له : كان عندي إمتحانات
فسالني بدهشة أنت طالب ؟!!
فقلت له: نعم
فقال لي أين تدرس؟
قلت : كلية الطب جامعة الخرطوم
سكت الرجل حتي ظننت أنه لن يكلمني مرة أخرى
وقد ظهر علي محياه تأثر شديد
وبعد فترة من الصمت الطويل أمسك بيدي وقال لي: تعال أقعد جنبي ..
وواصل حديثه إلي ((ياولدي أنا ما بعرف غير اسمك ولكني لا أعرف من أين أنت ولا شئيا آخر فقط أعجبني كفاحك كدي أقعد واحكي لي عن نفسك))
وباختصار أخبرته قصتي ..
فقال لي والله الذي لا إله غيره لن تبيع صحيفة بعد اليوم
ونفقة دراستك علي. حتي تتخرج وأكثر
حاولت الإعتراض عليه فقال لي يا ولدي انت في السنه الأولى وما تفعله الآن قد لا تستطيع فعله السنوات الجاية
وقد أنعم الله علي بمال كثير فاسمح لي بمساعدتك ولست صاحب فضل عليك بل أنت صاحب فضل علي
قال وقد كان
فكان حاج (مختار) أبا وصديقا وأخا وناصحا وكنت أعمل معه في إجازة الجامعه لمساعدة أبي في تربية إخوتي وكان يقول لي هذا العمل لمساعدة أسرتك أما نفقاتك فعلي
وذكر هذا الطبيب عن هذا الرجل أنه في إحدي المرات جاء لزيارته في الكلية وهو يحمل مراجع الطب فاندهشت كيف عرف ما أحتاجه من المراجع وعندما سالته قال لي إن له صديقا أستاذا في الكلية وقد سأله عما أحتاجه من مراجع ثم أردف قائلا كنت أعرف أنك لن تخبرني فتصرفت بنفسي لم يكن ينتظر لأخبره. ما أحتاج وكان يتكفل بمصاريفي وكسوتي وحتي تذاكر سفري لأسرتي وعودتي
وكذلك الهدايا للأسرة
أغرقني بفضله وبمحبة كبيرة
واستمر برعايتي حتي تخرجي وبداية عملي وعندما أقسمت عليه أن يتوقف فتوقف – علي مضض – وإن كنت أجده عند أي احتياج وكان يفرحه لجوئي إليه .. كان حاج مختار بهذه الروعة
واستمرت علاقتي الوثيقة به وأسرته حتي وفاته
وعندما علمت بمرضه وكنت قد بدات عملي بالخليج
وركبت الطائره فور سماعي بالخبر ووصلته وقد لفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي وبكيته كما لم أبك أحدا في حياتي
هذا الرجل وهبني الحياة هذا الرجل كان سبب في إحساسي بالآخرين وكان هو السبب في أي نجاح علمي
حققته في حياتي لأني لم أكن أريد أبدا أن أخذله وكنت أريد أن يري ثمرة فضله علي
كان هذا الرجل هو السبب في أي خير قدمته في حياتي
كان هذا الرجل هو السبب في أن أخصص جزءا من راتبي. الشهري في رعاية الطلاب المعسرين
وكان هذا الرجل هو السبب في أن أصبح إنسانا افضل وزوجا افضل وأبا أفضل نافعا لنفسي ولمجتمعي ولوطني
صاحب هذه القصة الدكتور جمال أحمد الصافي الذي كان يسكن الغرفة ٨٥ في داخلية الرازي
وهو من منطقة النهود
والرجل الذي كفله وقدم له كل هذا الخير
هو الحاج مختار الفاضل داوود دنقلاوي من منطقة جزيرة لبب دنقلا كان يسكن في بيوت الاسلاف خلف داخلية حسيب والرازي
وكان يرحمه الله لديه دكان صغير خلف فندق التاكا
أيها السودانيون هذا هو السودان في الزمن الجميل قبل أن يظهر العنصريون الذين أفسدوا علينا وطننا وبلادنا
أيها العنصريون الجدد توقفوا فقد أفسدتم علينا وطننا
إن متل الحاج مختار كثر وأن أمثال الدكتور جمال كثر لم يذكرهم التاريخ لأن السودان كله كان كذلك وطن واحد وشعب واحد وأمة واحدة وجسد واحد
هؤلاء السودانيين… قبل سياسية الكراهية والعنصرية …