أورد البرهان كتاب ضيمهم فثارت ثائرة الغرض : نفيسة والجسد المسجى فوق أتربة التناسي
نهر النيل اعتصرت الحزن “في مصارينا” ومنحت وما منعت ووقفت “ألفاً احمر” عند الملمات
مناع الخير أقصر لسانك وزح من الدرب .. زول فاضيلك مافي ..
على المقعد المترب بعربة الدرجة الثالثة بمشترك كريمة .. بين الوالد الصابر والعمة معدومة الحيلة ، ألقت رأساً غادره الألم وأسلمت الروح بطفل مكتمل النمو لكنه لم يطلق صرخة الميلاد ..
هبط البرهان الأمصار الأعرق ، كلي والابيضاب ، ليشاركهم أفراح تكوين الأسر كلبنات اجتماعية ، تحصن ضد زلق النسوية الفاجر في شوارع الحاضرة المغيبة .. خلف البرهان العاصمة وقيادات الضلال تعمل على تفكيك الأسرة طوبة – طوبة بقيادة اليسار ، ليلتئم مع بناة المجتمع مدماكاً – مدماكاً وفق السوية البشرية ..
والبرهان هو من عاصر في هذه السهوب الصبر والألم والرجالة وملاواة الشكائم منذ نعومة أظفاره ، وظلت سور الضيم وصور الحيف حاضرة في وعيه ينظر لوجوه أهله في الابيضاب وكلي وطيبة والمغاوير ، وهي ذاتها في كبوشية وقندتو وام الطيور والشيخ الحفيان وكدباس والمكابراب ودار مالي واب حمد ..
نظر البرهان لقامات هي كالنخل في عليائه ، وكان النخل في علاه هو الشاهد على ما لحق من محاق تأريخي .. ظل يأسى ويكفكف الحزن السقيم ، ويبدل الدمع السخين بجني الرطب ..
وكخلة النخل كانت نهر النيل تعتصر حزنها “في مصارينا” وتمنح ولا تمنع ، وتقف “ألفاً احمر” عند الملمات “وما بتقول الروب” ..
القمح والتمر والحبوب والبقوليات كلها من نهر النيل نحو جوف المركز الشره كرش الحوت الأزرق ، ومثلها طابع حياة أصبح معلماً للسوداني حيثما حل ؛ العمامة وثوب المرأة وعطورها التقليدية والآبري والكسرة المرة والكمونية وام رقيقة وسكين الضراع وحلف حرَّم ! ..
لكن رواد المواخير المخدرين في حاضرة الجحود كانوا يتهامسون يومئذٍ أن ذلك الجزء من البلاد غير منتج ولا يملك ما يسد رمقه ..
اللواري كانت هي الوسيلة نحو حاضرة الولاية دامر حمد ، وبنطون شندي “يا مجلس حكايتو عجيبة” ..
ومنذ ستينات القرن المنصرم ظلت السلطات البلدية تفرض رسماً على البصات السفرية “البراق والاكسبريس” تحت مسمى سفلتتة طريق شندي الخرطوم ، وبطن الخرطوم بنخبتها ظلت “غريقة” تبتلع ما يرد سنوياً ابتلاع الحوت الأزرق لصغار الأسماك .. أربعة عقود والمركز هو الحوت الأزرق .. قالت القابلة التقليدية أن الولادة متعسرة ولابد من نقل المرأة الحبلى لمستشفى شندي ، وعلى الطريق الرملي الموحل بين القرية والبنطون كان البص “بدفورد” العتيق يئن وبداخله صوت مبحوح متقطع “ياااااا الله لي” ..
ثم البنطون .. ثم مستشفى شندي .. ثم التحويل الى الخرطوم .. ثم مشترك عطبرة . وقبيل الجيلي ، وعلى مقعد عربة الدرجة الثالثة بالقطار تراجع صوت المرأة الحبلى “في شهرها التاسع” وصمتت الحشرجة الى الأبد ومات الألم .. ألقت نفيسة رأسها على حجر عمتها بت كجيرة ، وتعين على الاب ايجاد عنقريب وبطانية من بيوت محطة بحري ، وكفى بثوبها غطاءً أبيض للجسد المسجى وبأحشائه طفل ، حتى يبلغا مستقرهما بمقابر كوبر القديمة ! :
والظلم باقٍ لن يحطم قيده
موتي ولن يودي به قرباني
هتف الجسد المسجى الملفوف بذات الثوب الأبيض منذ الخروج الأخير من القرية .. نفيسة بت البشير هي مشهدية الوجع المقيم منذ ستينات القرن المنصرم ! ..
ومضت الأمصار الخضراء تحتلب النبت الطيب من الموالح والمانجو والأعلاف ، ثم أن التلال الصفراء ومرتفعات القلع الأحمر من لم يكن يؤبه لها سفرت عن المعدن الأغلى .. مظهر الثراء .. سيد البيع والشراء ، وشاغل النساء ..
رغم ذلك ظل الظلم يتطاول ، وتحظر مجرد المطالبة بالحقوق بل وحتى ذكرها يجرم ، وتدمغ بالعنصرية فيما تسمى مطالبات الآخرين مشروعةً يحمل دونها السلاح ، وتتمرد على سلطات المركز وجيش البلاد ، وتعقد لها مئات جلسات التسويات التي تمنح دون حساب ! ..
أما إن يقر البرهان كبير القوم وابن الولاية بظلم حاق بتلك المراتع فذلك خطاب عنصري ! ..
والصوت النشاز من مناع الخير من قذفت به الصدف السوداء نحو سدة المسامع ليس بمستغرب فهو ليس عدلاً من ظفر البرهان ..
وكما هو العهد سرت همهمات بعضها غبي وبعض يتغابى وآخر يتغرض بالقائد حتى وإن ردد السلام وصمت ، بيد أن نهر النيل لم تعد ذات المصر المعطاء اللبون وحسب ؛ بل شمرت عن ساعدٍ أخفى المخالب دهراً ليوم كريهةٍ ، وافتر ثغرها عن أنياب حامت بها عن البلاد طوال تأريخها .. نهر النيل لن تسقط مواريث السخاء وقرى الضيف من أينما حلَّ لكنها قبرت الصمت الزاهد نحو الفصح الراشد ، فتنزل عليها خطاب كبير الأمة برداً وسلاماً ، وظلت على يقين أنه الراعي الذي لا يكذب أهله ..
وجهر البرهان جاء صريحاً كونه تشرب نقيع الجرأة العلمية في مرابض الرجولة خندقاً وكميناً وتماماً يرفع بزي طرزته قطرات الدم ، وعطرته أبخرة البارود ..
وقبل نهر النيل تنقل البرهان في كل أمصار البلد الطيب حفيظاً على حمى أهله حفظاً لأمنهم وأرضهم منذ أن كان ضابطاً في بواكير الخدمة . ثم أنه زراهم وهو كبير القوم في شرق البلاد وغربها وجنوبها وكان هو ذات المدافع عن حقوق كل من لحق به ضيم ، وليس أوجب من مسئولية اعترافه بحقوق مواطنيه في كل شبر ، والوعد المبرم أن تعود الحقوق لأهلها ، ونذكر أن البرهان ما يمل يؤكد أن اتفاقية جوبا هي من الثوابت غير القابلة للنيل منها ، فيما يطالب مناع الخير ورعيله الفاجر بإلقاء الاتفاق ..
مناع الخير .. أقصر لسانك وزح من الدرب .. لاك قيس ولا متل ..
زول فاضيلك مافي ..