إفتتاحية
الهوجة و(فئات ثلاث) والإعلام المبتلى بالنشاز :
الفضائيات العربية ناطق رسمي باسم الحكومات بهدف الوصاية
التلفزيون الرسمي يستخدم مصطلحات تقدمه كمعارض لرئيس مجلس السيادة
تماماً كما امتلأت سوحنا بالنشطاء الخدوج ، كان ذلك هو حال الإعلام ، لاسيما المرئي والمسموع ، ومن صعدوا منصاته خلال السنين العجاف .
لقد أفرز التغيير واقعاً شائهاً هو انعكاس لحالة الفوضى السياسية وصدأ المعايير ، ومثلما صعد المسرح خفاف الوزن من أحزاب الأقليات الأعزلون عن الأهلية والدربة ، دانت المنصات الإعلامية لفئات ثلاث ؛ الأولى هي إعلاميو اليسار والليبرالية ، والثانية هي تجار الإعلام من الإعلاميين الذين يتسلقوا كل منبرٍ عبر مفهوم ( اللي تغلبو ألعبو ) ، وعلى طريقة ( ما يطلبه المستمعون ) من عوام ونشطاء ،
فيما تمثلت الثالثة في شباب ينقصهم كل شئ ، وتعميهم رغبة ابتهال السانحة للشهرة دون رصيد مهني أو معرفي موضوعي عن كل المحددات المهنية والمعرفية .
وبالتركيز على الإعلام المرئي لفضائيات السودان – عدا القليل – وللفضائيات الأجنبية الأكثر شهرة والأنزع لتغطية الشأن السوداني ، ومراسليها وضيوفها ، دانت الغلبة للفئات الثلاث . ولقد انعكست أحادية الطرح الذي فرضته هوجة التغيير ، وبؤس خطاب من تسنموا المناصب أرفعها ، واجترارهم لذات الكلمات والجمل حد الإملال على سوح مرئية لم تتورع عن تقديم كل ما هو بائس ووضيع . وبالمحصلة تميزت غالب المعالجات بالخواء من حيث المضمون ، وبالركاكة والفهاهة وضيق القواميس من حيث الشكل ، حتى بالنسبة لذوي الخبرة من فئتي المؤدلجين وتجار الإعلام .
أما بالنسبة للفضائيات العربية الأكثر ضلوعاً في شأن السودان ، فهي في الغالب تمثل الناطق الرسمي لوزارات الخارجية لدولها ، ووظيفتها الأساسية أن تصرح بما تسكت عنه تلك الدول رهبةً أو رغبة . عندئذٍ فالأقرب لتحقيق مراميها هو تلك الفئات الثلاث من الإعلاميين من يغزلون على نولها .
الأفدح أن بعض الدول من حولنا على دراية بالرغبة الغربية عامة والأمريكية خاصة لجلب السودان لبيت الطاعة ، ومن هنا تتسابق تلك الدول نحو الإنفراد بالوصاية على السودان لتحتفظ بحق الأمتياز كورقةٍ تتقرب بها للمعسكر الغربي ،
حتى وإن يكن ذلك عبر إغراق السودان في الأزمات ، وسيادة الفوضى ، وعناء المواطن .
في غضون ذلك ابتليت الساحة الإعلامية بالفرز المخل الذي حاصر الحريات عبر استبعاد غالب من يناهضون اليسار والليبرالية ، وبتراجع مداخيل الصحف السودانية ، وبغياب النظرة الاستراتيجية للحكم تجاه الإعلام ، في ظل الأعداد الكبيرة من خريجي الاعلام وغيرهم ممن دلفوا الى رحابه . وأنتج كل ذلك واقعاً يجرف الفئات الثلاث نحو ذاتيةٍ عضوض في غياب تشكل مصطلح المصالح القومية العليا بالوعي الجمعي .
ومثلما أن للبسملة قداستها عند استهلال الكلام ، تسيدت بعض الجمل والمفردات الساحة من شاكلة (ثورة ديسمبر المجيدة) ، و ( الفلول ) و( التحية للثوار الشرفاء) و(ثورة الشباب) و(الإنقلابيون) في ببغاوية مملة وبلهاء ، بل وقسمت المجتمع ضمنياً بين ثوري ونقيضه ، ولا يعني النقيض من كانت له علاقة بالحكم السابق ؛ بل أنه كل من لم يخرج في التظاهرات ولم يؤيد أباطيل قحت ، وقسمت المجتمع بين شباب وبين من تجاوزوا تلك المرحلة .
وبالنسبة للتلفزيون القومي يكفي أن أورد مجزوء مقالٍ كتبه الزميل السماني عوض الله رئيس تحرير الحاكم نيوز ، ونشره بموقعهم اليوم . يقول السماني :
“تلفزيون السودان الرسمي لا يزال يستخدم عبارة (الإجراءات الانقلابية التي أخذها البرهان) وكذلك (رئيس مجلس السيادة الانقلابي) وغيرها من المصطلحات حتي أصاب المشاهد الدهشة بأن التلفزيون الرسمي معارض لرئيس مجلس السيادة.
وأعتقد أن قرارات ٢٥ أكتوبر الناس تجاوزتها وخطت خطوات متقدمة للبناء والتعمير وحفظ مكتسبات الثورة وللاسف ان يروج التلفزيون الرسمي لعبارات افقدتنا الاحترام لدي كثير من الدول أمر يتطلب الوقوف عنده حتي لا يكون السودان في لسان كل من هب ودب”
(إنتهى حديث السماني) .
ولسوء الطالع فقد وجد السياسيون والمتنفذون في أعلى السلم القيادي أنفسهم مكرهون على ترديد بعض ذات المفردات والجمل المكرورة .
الواقع يقول أن سوح الحريات الإعلامية قد تراجعت تماماً خلال سنوات قحت رغم ادعاءات الحرية الزائفة ولكل تلك الأسباب مجتمعة . وإذا كانت البوصلة قد استعادت نقاءً نسبياً عقب الخامس والعشرين من اكتوبر من العام المنصرم ، فإن واجب المجلس السيادي هو إدراك خطورة الإعلام في هذه المراحل الدقيقة من تأريخ الأمة ، لاسيما المرئي . على المجلس أن يدرك أن ضلوع الفضائيات العربية هو نيابة عن وزرات الخارجية لتلك البلدان ، لاختطاف حق الوصاية . عليه أن يدرك خطورة غياب خطابه باللغة الإنجليزية الموجه للآخر غير الناطق بالعربية .
إزاء كل ذلك على مجلس السيادة أن يشكل غرفة من داخله ، تستعين بخبراء الإعلام المشهود لهم لوضع خطة تستبطن كل تلك التحديات . ثم من بعد عليه أن يسمي أحد أعضائه مشرفاُ عاماً على الإعلام ، ما يتصل بإعلامنا المحلي أو نشاط الفضائيات الأجنبية في البلاد .