بعيداً عن هوجة الهتاف وأهواء السياسيين : شركات القوات النظامية ليست خروجاً على مألوف العالم
- استثمارات القوات النظامية إسهامٌ في الإقتصاد وحراسةٌ للأمن القومي .
- لم تعرف الإفلاس أو العجز عن الوفاء بالتزاماتها ، أو الفساد الموثق .
- جيوش العالم الكبرى لديها أكبر الإستثمارات ولا يستنكر أهل البلاد ذلك عبر مختلف حكوماتهم وأحزابهم .
- من أمريكا مروراً بتركيا انتهاءً بالهند وباكستان تنشط استثمارات الجيش دون أن يقدح فيها قادح
رئيس التحرير سيف الدين البشير يكتب
saifbashir2003@yahoo.com
الفرح الفطير :
تناقل متعاملون بوسائل التواصل الخبر الذي أورده موقع سودان تربيون ، واحتفى بعضهم بالعنوان الذي تخيره المحرر والذي يقرأ :
مجلس النواب الأميركي يجيز تشريعاً لإنهاء سيطرة الجيش على الشركات في السودان
وعندنا كإعلاميين معلوم أن الوسائل تجتزئ ما يخدم أجندتها أو ما يكفل المزيد من ترويج الخبر من إثارة ، حتى وإن أخرجت جملاً عن سياقها . وطبيعي أن يجئ الخبر خالٍ من صيغة المبالغة الواردة بالعنوان .. وعلى ما يبدو فإن غالب مستخدمي الوسائل يؤمنون بفكرة أن : الجواب من عنوانو ) ..
ورغم ما ثبت لاحقا من تشوش الخبروالتباسه، وما اذا كانت سيادة دولتنا تقبل به، فلابد من لفت نظر المحرر أن مبدأ ( الجواب من عنوانو ) ثبت أنه يصلح فقط لإثارةٍ موقوتة تظل سارية المفعول ريثما تتكامل قراة المحتوى .
أما المتابع لشأن العالم يعلم أن ثم أسراراً تخص الدولة ليست للتقاسم مع أي من العوالم حتى وإن تكن أمريكا .. وفقط للحالمين ؛ هل يمكن لكائن من كان أن يطالب البنتاغون بالشفافية بحدها المطلق خلال تعاملاته مع شركة بلاك ووتر العسكرية الأمريكية الخاصة ؟ .. هل يمكن أن تحدثنا ( سودان تربيون ) بذات الشفافية عن مبلغ 44 مليار دولار استثمرها الجيش الأمريكي في استثمارات انشائية خلال 7 سنوات ! .. طبيعي أنها لا تعلم وأنه اجتزاء يتلهى به الفيس على مدى يومين ليس إلا ..
بين المنطق والصخب :
أسوأ ما يمكن أن تتمخض عنه الشرعية الثورية لتشويه الثورات هي أن يتصور مدعيها أنه فوق المنطق وفوق المتعارف عليه ، بل وفوق القانون ، وأنه هو المنطق وهو العرف وهو القانون ، وأنه فوق المراجعة ، وأنه روح الثورة الذي ينفث في تلافيفها الذماء ، ويد الثورة التي تبطش بها .. وباختصار فهو يفعل ما يريد عبر الغبن أو رد الفعل أو التغرض ، أو الغضب غير الرشيد . والكتابة عبر اعتدال الموازين في عهود الهوجات الهتافية هو أن تمشي على الشوك حافياً حتى وإن ثقب الشوك الجلد نحو العظام .
وشأن القوات النظامية في أعقاب ثورة ديسمبر ظل مثيراً للجدل ، ولقد حكم صاغة الهتاف أنك وحتى تمنح صك براءة ثوري عليك أن تغمط حق القوات النظامية ، ثم عليك إتباع القول بالفعل عند مصاخبة ( مدنيااااااوووو ) بحيث تتقصد كل خطوة سابقة أم لاحقة للقوات النظامية وتضعها في خانة ( حكم العسكر .. إنفراد العسكر .. هيمنة العسكر ) .
وما يهيل المزيد من الملح على الجرح أن قوى فاعلة بين الحرية والتغيير ظلت ذات نزعة للتشفي من القوات النظامية ، ولديها تأريخ من استهداف القوات النظامية ، بل والسعي الحثيث أن يتشرب العامة مواقفهم من القوات النظامية عبر الهتاف السوقي بإيقاع ( التم تم )! .
الميري .. جذر المناكفة :
تلاحظ من خلال الهتافات الثورية المطالبة بذهاب النظام البائد أن اليسار الذي تصدى للقيادة تعمد دس الكثير من الهتافات الرامية للإساءة للقوات النظامية وتقزيمها من شاكلة : ( يا عسكري ومغرور …) ، ولقد كان من الممكن أن بصاغ الهتاف ؛ ( يا مفتري ومغرور .. ) أو ما شاكلها مما يصيب المقصود بالهتاف دون إثارة الشباب ضد القوات النظامية . وبعض الهتاف كان أشنع في حق ( الميري ) شأن ( شفاتة جو بوليس جرا .. ) ، نذكر ذلك رغم استنكارنا له من أجل التأريخ وحتى تتحرى الذاكرة الجمعية ذلك الهتر القمئ ، وتفرق بين المطالبة بسقوط النظام وبين ما يلمس كبد الأمن الإجتماعي والأمن القومي .. ومثل ذلك كثير . ولا يحدثني أحدهم بأن ما حدث كان شأناً عارضاً وعفوياً تبناه الشارع ، ذلك أن إنهاك وإضعاف القوات النظامية تمهيداً لتفكيكها ظل غبناً يسارياً متطاولاً و جهير . وفقط نذكر المقطع القائل : ( والعسكري الفراق .. بين قلبك الساساق .. وبيني هو البندم ) ولقد كان أمام الشاعر عدداً من المترادفات الممكن استخدامها عوضاً عن ذكر ( العسكري ) ، وهي إشارة مطلقة غير مقيدة .. كان بإمكانه استخدام ( والظالم الفراق ) .. ( والمفتري الفراق ) إذ ليس بالضرورة أن يكون هذا الفراق هو ( العسكري ) بصفة عسكريته . ونذكر مقطعاً آخر :
من الواسوق أبت تطلع ..
من الأبرول أبت تطلع ..
من الأقلام أبت تطلع ..
من المدفع طلع خازوق .. خوازيق البلد زادت
ولعمر أبيك هل من مرحلةٍ أبعد في تكريس مباغضةٍ بينةٍ بين المدفع كرمز للجيش تألفه الأحراش وبين باقي كل القطاعات المجتمعية ممثلة في المزارعين والعمال والفنيين ، والمثقفين كمثل هذه ! ..
وفي غضون التظاهر المستعر ضد الرئيس الراحل جعفر نميري ألقى دهاقنة اليسار بهتاف ( لن يحكمنا الأمن القومي ) ، وتبعه أن أوغروا الصدور ضد جهاز الأمن ، وعاد الملاين ممن عمَّى عليهم الهتاف ليستفوا ندامة الكسعي بعد حل جاهز الأمن ، ودفعت البلاد ثمناً باهظاً جراء ما درج عليه اليسار من تلخيص فكرتهم في هتاف يمشي به الشارع ثم يحيله لواقع .
يوم أن سادوا ؛ التأميم والمصادرة :
واحدة من أهم آفاتنا أن ينبري للشأن العام عادةً من لا علاقة لهم بمجريات العالم ، وهؤلاء يتعاملون مع البلاد وكأنها جزيرة معزولة أو كأنما هي في كوكب غير الأرض .. وعند نجاح الثورة فقد دانت الساحة لأصحاب الأجندة من من افترضوا أنهم المعسكر المنتصر لفرض أجندتهم .
وفي تعجل أهل الأجندة لإنهاك القوات النظامية استغلوا أرضية الصخب الديماجوجي الذي القوا به في جنبات التظاهر ، والتقطه البعض دون فحص ، إستغلوه تكئةً للمضي قدماً لاستهداف المؤسسات الإستثمارية لتلك القوات ، وقدموها على أنها أس البلاء للإقتصاد السوداني ، واليسار مع شططه فهو يتمتع ببراغماتية مبتذلةً ؛ ومع مواقفه المبيتة لإضعاف
الجيش ، لكنه لا يتردد في مداجاته .. يقول الراحل محجوب شريف في قصيدته عشية سقوط حكومة مايو ( بلا وانجلا ) : الظبط والربط انتمى .. للشعب شعب الملحمة .. أين هذه من ( العسكري الفراق ) ؟ .
على نفس النسق فقد أقدم الشيوعيون إبان حكمهم العام 1970 على أكبر مذبحة في تأريخ الإقتصاد السوداني عبر قرارات المصادرة والتأميم التي قصمت ظهر الحراك الإقتصادي .. ولتنشيط الذاكرة فقط نذكِّر بالمؤسسات التي صودرت آنذاك :
بنك باركليز
بنك مصر
بنك ناشونال اند جرند ليز (البنك العثماني سابقاً)
البنك العربي
البنك التجاري الإثيوبي
البنك التجاري السوداني
بنك النيلين مجموعة شركات جلاتلي هانكي وشركاهم (سودان)
• شركة الصناعات الإمبراطورية الكيماوية ( السودان)
• مجموعة شركات سودان مركنتايل.
• مجموعة شركات متشل كوتس شركة النيل الأزرق للتغليف.
• شركة بيرة النيل الأزرق.
• شركة باتا لصناعة الأحذية.
• شركة أي بي وشركاه.
• شركة سفريان.
• شركة ناشونال كاش لآلات تسجيل النقد.
• شركة البحر الأحمر للترحيلات.
• شركة التخزين والشحن السودانية المحدودة.
• شركة الأتومبيلات.
• شركة قطان.
وجميعها كانت شركات رابحة وتضخ ضرائبها وحواصل عملاتها الصعبة للخزينة العامة .
الفادحة أن غالبها – أقول غالبها أسندت إداراتها للقطاع المدني بنظمه وقوانينه الفضفاضة ثم انتهت للاشئ .
استثمارات القوات النظامية :
ويتصل المسعى الهتافي غير المسئول بذات إيقاع التأميم والمصادرة لإنهاك القوات النظامية عبر المطالبة بتفكيك استثماراتها وتسليمها لفضفاضية مفاهيم المدنية ، وليس من إغراءٍ سوى الإدراك بأن الذاكرة السودانية خربة وأن هؤلاء الشباب الذين هم وقود الثورة حرموا من تصفح التأريخ الحديث .. الغريب أن ذات الذين ظلوا يستهدفون المؤسسات التجارية للقوات النظامية يتصل تهليلهم حتى الآن للمخابز التي وصلت من مصر – وهي تشكر على ذلك – ويتناسون أن الجيش المصري هو من يشرف على الخبز ومدخلاته في الشقيقة مصر ، وأنه ما من منازع لهم في هذا الحق باختلاف الأحزاب المصرية ، ذلك لأنهم يدركون أن أي مساس بالقوات النظامية هو مساس بالأمن القومي .
أما على النطاق العالمي فنذكر تلك الأصوات بأن استثمارات الجيش الأمريكي فى مجال الإنشاءات خلال 7 سنوات قد بلغت 44 مليار دولار ، وقارن ذلك بما تخفيه أضابير البنتاجون ، والسي آي إيه ، والإف بي آي .
وفي الجيش الباكستاني تعمل مؤسسة فوجي (FF) وهي واحدة من أكبر التكتلات في باكستان وفق موقعهم في كل أنواع التجارة والصناعة من الأسمدة الى الأسمنت والأغذية وتوليد الطاقة واستكشاف الغاز وتسويق وتوزيع الغاز المسال والمحطات البحرية والخدمات المالية وخدمات التوظيف وخدمات الأمن.
وفي نظيره الجيش الهندي فإن متاجر كانتين( Canteen Stores Department ) واختصارها CDS) ) ، والمملوكة للجيش الهندي ، فهي تعتبر متاجر التجزئة الأكبر والأكثر ربحية طوال أكثر من سبعين عاماً ، وقد توسعت رأسياً وأفقياً استجابة لاحتياجات الجيش والبحرية والقوات الجوية ، لتلبية التطلعات المتزايدة للقوات والجنود المعاشيين وعائلاتهم . وتتاجر الكتلة في كل شئ من المواد الغذائية الى السيارات .
وفي تركيا ومنذ العام 1961 أسس الجيش التركى مجموعته الاقتصادية “أوياك” ( OYAK )، وتأسست المجموعة فى البداية من اقتطاع نسبة 10% من رواتب الضباط العاملين فى الجيش، ويعمل فيها حوالى 29 ألف شخص، وبلغ حجم أصولها حوالى 28.3 مليار ليرة تركية، أى حوالى 10 مليار دولار تقريبًا، الأمر الذى يؤهلها لتكون واحدة من أكبر المجموعات الاقصادية فى البلاد، وتمتلك مجموعة من الشركات المعروفة على مستوى البلاد، مثل توكيل شركة “رينو” الفرنسية لصناعة السيارات، كما تملك شركة لتصنيع الحديد تحت اسم ERDEMIR، كما تمتلك بنكًا تحت اسم “بنك أوياك” لكنه بيع لاحقا، وكذلك يمتلك الجيش التركي أسهماً في ستين شركة تمارس طيفاً واسعاً من الأعمال من الحلويات وحتى السيارات .
ونعود للحالة السودانية ، وكم هو غريب على التائهين بين لينين والبروسترويكا ، والعروبية المتماهية تارة مع اليسار وأخرى مع الرأسمالية العالمية ، غريب أن يتبنوا التأميم بالأمس ، ثم يعودوا اليوم لينكروا على القوات النظامية لاستثمارات خاصة بها . ويسقط هؤلاء سهواً أن كل المؤسسات التابعة للقوات النظامية ناجحة رابحة وأن غالب المؤسسات التي صادروها وأمموها العالم 1970 تسربت كالعطر الرخيص من بين الأصابع .
وللحقيقة نقول أن ما عصم استثمارات القوات النظامية من زلق التي تسنمها الطرف المدني هو صرامة ونجاعة القوانين العسكرية ، ومن ثم لجمها لأي تفلت داخل صفوفها .. المعلوم أيضاً أن النجمة الواحدة إذا ما ارتاحت الى الكتف تملي على حاملها ضرباً من الدقة والإنضباط حتى داخل أسرته الصغيرة ، وهي تحمل ألقاً فوق بريقها الذهبي يجعل حاملها يحامي عن قيم وأنفة سودانية تشربتها في دوائر المجتمع الأصغر ، وكرستها وعززتها التربية العسكرية . ومن هنا فإن كاريزما النجوم المرصعة تتعالى على كل مطمع رخيص قد يفضي نحو الفساد .
لبنات لن تفكك :
وكم هو طفولي ومضحك أن يتناسى المنادون بتحجيم الأنشطة الإقتصادية للقوات النظامية أن ما ذكرنا من نماذج عالمية تمثل ديمقراطيات غير مقدوحٍ فيها من أمريكا مروراً بالشرق الأوسط وحتى القارة الأسيوية ! .. ونسألهم إن كانوا قد سمعوا هتافاً فطيراً ضد تلك المؤسسات ، وفي مصر الجارة فقد عصمت قوامة الجيش على حاجات الناس من أن يبلغ الشعب المصري ما بلغناه من سوء الحال .
بقي أن نقرر أن على شرازم المهرجين المنتفخ أوداجهم أن قضايا الأمن القومي لن تصبح مجرد هتاف نخبوي تناثره الرياح وهناً على وهن .. بل أنها ثوابت وعليهم التفريق بين الثابت والمتغير .