مقالات
حيادية الشارع العام
أمل الكردفاني
في أحد القروبات على الفيس، قالت إحدى الفيمنيست بأن معيار الممنوع من الأفعال هو ان ننظر إن كان ذلك يسبب ضرراً مباشراً للآخر أم لا. فإذا قام مثليان بتقبيل بعضهما في الشارع فإن هذا لا يؤذي أحداً وبالتالي فهو جائز.
بالتأكيد هذا معيار مخادع. لأنه يفترض أن الضرر هو فقط ضرر مادي. صحيح أنني شخصياً لا أقف ضد حريات الآخرين، ولكن ما أراه هو ضرورة أن يكون الشارع العام محايداً دائماً، وهذه مسألة هامة جداً وتستند في تبريرها إلى حقوق الآخر المكفولة وفقا للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. والتي نصت في المادة ١٨/ ٣على أنه: (لا يجوز إخضاع حرية الإنسان في إظهار دينه أو معتقده، إلا للقيود التي يفرضها القانون والتي تكون ضرورية لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية.
- تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد باحترام حرية الآباء، أو الأوصياء عند وجودهم، في تأمين تربية أولادهم دينيا وخلقيا وفقا لقناعاتهم الخاصة).
فالفقرة الثالثة أوضحت إمكانية التقييد على أساس الآداب العامة، والتي تمثل حقوق الآخرين (حق المجتمع). وهذا ليس مقصوراً على الجوانب اللا دينية بل يشمل الجوانب الدينية، فإذا حدث مثلاً وتعرض مجتمع ما لهجمات من إرهابيين بوذيين، فمن الواجب على البوذيين المسالمين أن لا يكشفوا عن مظاهر بوذية في الشارع منعاً لاستفزاز المجتمعات التي تعرضت لهجمات بوذية، حماية للسلامة العامة.
مسألة حدود الحقوق مسألة حساسة، نشعر بها بوضوح عندما نكون أجانب في دول أخرى. فحتى سيرك في الشارع العام بقميص مزركش وملون في مجتمع لا يرتدي أهله سوى الجلابيب البيضاء، سيعد انتهاكاً للمعايير الثقافية لذلك المجتمع. والانتهاك يثير استفزازاً مباشراً، رغم أن ضرره مجرد ضرر معنوي. فتلك القواعد الاجتماعية والتي تحولت لأعراف عبر السنين حازت هي بذاتها على قيمة ادبية لدى تلك المجتمعات مما يوجب احترامها.
تشير الفقرة الرابعة إلى حق الآباء في تربية أبنائهم أخلاقياً بما يشاؤون، وهذا يستتبع ان يتمتع الشارع العام بحيادية لا تنتهك ذلك الحق المقرر للآباء. فالمجتمعات المحافظة يمكن أن تمنع المثليين من تقبيل بعضهم البعض في الشارع العام، لأن هذا يهدم حقاً وهو خلو أذهان الأطفال من مثل تلك السلوكيات.
في الولايات المتحدة الأمريكية وقبل قرابة سبعة عشر عاماً ترجمت قوانين محلية (وُصفت بالمجنونة) ولكنها ظلت محل احترام، مثل قوانين تمنع من استمرار تقبيل الرجل للمرأة لمدة تتجاوز نصف دقيقة، كما تمنع بعضها من يأكل ثوماً من ركوب المواصلات العامة حتى لا يؤذي الآخرين برائحته.
فالقانون تحدده الغالبية في المجتمع المحلي لا الأقليات. فإذا كنا في الفاتيكان فلا يكون من الطبيعي أن يفترش المسلمون السجادات لأداء صلاة الجماعة إلا لو كانوا يقصدون استفزاز مجتمع الفاتيكان. وعلى العكس، لا يمكن لمسيحيين أن يرتدوا صلبانا في مكة.
إذاً فحيادية الشارع العام تحددها الفئة الغالبة في المجتمع. وما وراء هذه الحيادية يعد انتهاكاً لحقوق هذا المجتمع. فالمسألة ليست فقط الضرر المادي كالضرب والجرح..الخ بل تشمل الضرر المعنوي والذي يمثل شذوذاً عن معايير مجتمع ما.
فإذا كان أغلب المجتمع محافظين فيجب على المثلي أن لا يمارس سلوكاً شاذاً في الشارع العام. وكذلك العكس، فإذا كان هناك مجتمع مثليين فعلى غير الشواذ ألا يمارسوا سلوكيات تنتهك معايير مجتمع المثليين الغالب.
ولذلك نأخذ على الفقرة واحد من المادة ١٨ أنها أطلقت حق ممارسة الشعائر على الملأ. فهذه المسألة يمكن أن تفضي إلى تهديد للسلام العام. فصلاة المسلمين الجماعية في دولة مسيحية يجب أن تتم في أماكن العبادة المخصصة لها، وكذلك يجب أن لا تعرِّض تلك الصلاة الجماعية حركة المواصلات العامة للتعطيل والعرقلة، وهذا لا يؤدي فقط إلى حفظ السلام العام، بل يعكس وجهاً حضارياً للمسلمين. فالمجتمعات المتحضرة هي التي تراعي حقوق الآخرين قبل حقوقها. لقد لاحظت أن الكثير من سائقي السيارات في السودان يوقفون سياراتهم وسط الازقة أو أمام أبواب البيوت، وهذا دليل على التخلف والهمجية. حيث لا يراعي أحدهم حقوق الآخرين.
إذا فالشارع العام يجب دائماً أن يكون حيادياً، وتتحدد حدود تلك الحيادية بالأعراف الاجتماعية وليس بآرائنا ومعتقداتنا الشخصية، لأننا داخل مجتمعات وليست المجتمعات بداخلنا.