دور العملات المشفرة فى الحرب الروسية – الأوكرانية
تلعب “العملات المشفرة” دورا بارزا في الحرب الروسية الأوكرانية، خاصة بعد التصعيد الواضح بين أطراف الصراع، الذي وصل إلى أشدة منذ بداية الأسبوع الرابع للحرب. ففي الوقت الذي تستخدم فيه روسيا العملات المشفرة لتخفيف انعكاسات العقزبات عليها، فإن مؤسسات الدولة الأوكرانية بدأت تعتمد عليها في تمويل الجيش وسد الاحتياجات الضرورية. وفى وسط تلك المعاملات المالية الرقمية التي يتصاعد التهديد بها، أعرب البنك المركزي الأوروبي عن قلقه من استخدام العملات الرقمية المشفّرة للالتفاف على العقوبات المفروضة على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا. يذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية اتفقت والحلفاء الأوروبيون وكندا على عزل البنوك الروسية الرئيسية من نظام المراسلة بين البنوك، “سويفت SWIFT”، الذي يربط أكثر من 11 ألف بنك ومؤسسة مالية في أكثر من 200 دولة وإقليم، مما يعيق وصولها إلى الأسواق المالية العالمية.
وقد أدى ما قامت به الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى إثارة النقاش حول ما إذا كانت العملات المشفرة، وخاصة البيتكوين، يمكن أن تكون وسيلة لأولئك المدرجين في قوائم العقوبات للتهرب من القيود. ويرجع سبب طرح السؤال السابق إلى أن العملات المشفرة غالبًا ما تكون لامركزية، مما يعني أنه لا يتم إصدارها أو التحكم فيها من قبل كيان مركز يمثل البنك المركزي، وعندما يتم إرسال التشفير إلى مستخدمين آخرين، فإنه لا يمر بالطريقة التقليدية للتحويلات المالية- كل ما سبق وبه من علامات استفهام يجعلنا نناقش في هذا التحليل، حدود استخدامات روسيا وأوكرانيا للعملات المشفرة، والتخوف الأوروبي منها.
روسيا والعملات المشفرة:
تهافت الشعب الروسي على شراء العملات المشفّرة التي يتم التداول بها خارج النظام المصرفي الرسمى، ولم يكن ذلك شيئا جديدا على روسيا بفعل الحرب القائمة، بل تعتبر العملات المشفرة جزءاً من النظام المالي الروسي مقارنة بمعظم الدول الأخرى، حيث تعد روسيا ثالث أكبر دولة في مجال تعدين البيتكوين، وهي عملية حسابية كثيفة الاستهلاك، ويقدر تقرير حكومي روسي أن هناك أكثر من 12 مليون محفظة للعملات المشفرة، حيث يتم الاحتفاظ بالأصول الرقمية من جانب المواطنين الروس بقيمة تبلغ حوالي 2 تريليون روبل- أي ما يعادل حوالي 23.9 مليار دولار. وتقدر معاملات الروس بالعملات المشفرة بنحو 5 مليارات دولار سنوياً .وقد شهد تداول “بتكوين” المقوّمة بالروبل نمواً من ناحية “الحجم” بحيث بلغ في أوائل مارس 2022 حوالي 14.2 مليون دولار، وبلغ متوسط حجم الصفقة على “بتكوين” بالروبل على منصة “بينانس” أعلى مستوياته خلال 10 أشهر، بما يقارب 580 دولاراً تقريباً في 24 فبراير2022 عندما بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا.
وبعد استبعاد بنوك روسيا الكبرى من نظام سويفت العالمي، وجدت روسيا في العملات المشفرة وسيلة لتحويل الأموال دون المرور بالقنوات العالمية الرسمية، حيث وفرت العملات الرقمية سردايب تحتية لتحويل الأموال من وإلى روسيا. كما أن الاعتماد المتزايد للعملات المشفرة يساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التهرب من الموجة الأولى من العقوبات المالية من الغرب، وذلك وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، ويأتي ذلك تزامنا مع عمل الحكومة الروسية على تطوير عملتها الرقمية الخاصة بالبنك المركزي، وهو ما يسمى بـ ” الروبل الرقمي ” الذي تأمل في استخدامه للتجارة مباشرة مع الدول الأخرى التي ترغب في قبوله دون تحويله أولاً إلى دولارات.
وفي أكتوبر 2020، أكد ممثلو البنك المركزي الروسي أن “الروبل الرقمي” الجديد سيجعل البلاد أقل اعتمادًا على الولايات المتحدة وأكثر قدرة على مقاومة العقوبات، وسيسمح الروبل الرقمي للكيانات الروسية بإجراء معاملات خارج النظام المصرفي الدولي مع أي دولة ترغب في التجارة في العملة الرقمية. وبحسب البنك المركزي الروسي، الروبل الرقمي، هو شكل إضافي من أشكال العملة الروسية التي سيصدرها بنك روسيا رقمياً، وسيكون هناك خصائص مشتركة لكل من الروبل النقدي وغير النقدي. ويأتي تطوير روسيا لـ”الروبل الرقمي” بعدما تكبدت خسائر تقدر بـ(50) مليار دولار بسبب العقوبات الأمريكية، حيث منعت واشنطن مواطنيها من التعامل مع البنوك الروسية وشركات النفط والغاز الروسية على خلفية غزو شبه جزيرة القرم.
تقنين العملات المشفرة فى أوكرانيا:
تحتل أوكرانيا المرتبة الرابعة في مؤشر تبني العملة المشفرة العالمي لشركة Chainalysis، بعد فيتنام والهند وباكستان، وتمر نحو 8 مليارات دولار من العملات المشفرة عبر البلاد سنويًا، واتخذت السلطات خطوات جدية في وضع اللوائح المناسبة لتعدين البيتكوين خلال العامين الماضيين، وشجعت وزارة الطاقة الأوكرانية على استخدام مصادر الطاقة النووية لمشاريع تعدين العملات الرقمية .كما وقع رئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي، على مشروع قانون العملات المشفرة المسمى بـ On Virtual Assets، الذي يضع إطارًا قانونيًا للبلاد لإدارة سوق التشفير المنظم. وأقر البرلمان الأوكراني قبل شهر مشروع القانون هذا لإضفاء الشرعية على العملات المشفرة وإعداد إطار عمل لتنظيمها وإدارتها. ومع القانون الجديد المعمول به، فإن منصة العملات المشفرة الأولى في أوكرانيا، Kuna، تساعد الدولة في إنفاق التبرعات وتحويل العملات المشفرة إلى عملة ورقية.
وحول زيادة الحملات الحكومية بأوكرانيا حول التبرع بالعملات المشفرة، جمعت أوكرانيا 35 مليون دولار من التبرعات بالعملات المشفرة من خلال آلاف التبرعات منذ بداية الحرب، وتلقت إحدى المنظمات غير الحكومية تبرعًا واحدًا بمقدار 80 قطعة من عملة بيتكوين. وتدفّقت التبرّعات إلى المحفظة المشفرة الحكومية من العديد من العملات الرقمية، بما في ذلك “بتكوين” و”إيثريوم” و”تيثر”، وحتى “دوجكوين”، وإن كان ذلك فتح المجال نحو التحذير من عمليات احتيالية لجمع الأموال المشفّرة، كما أن بعض القراصنة والمحتالين ربما يستغلون الموقف ويخدعون الأشخاص الراغبين في التبرع لأوكرانيا.
تأسيساً على ما سبق، يمكن القول أنه من المرجح أن يرحب الأوكرانيون الذين كانوا يبحثون عن أنظمة مصرفية بديلة، خاصة أثناء الحرب، بإضفاء الشرعية على النقود الرقمية، بما يشجع على استخدام العملات المشفّرة وقد يتقلب الأمر في المدى الطويل ضد الحكومة، من خلال حض الأوكرانيين على استخدام نظام مالي مواز.
ولمواجهة صعود «العملات المشفّرة» وللاستجابة للتحوّل المتزايد نحو المدفوعات غير النقدية، يدرس البنك المركزي الأوروبي إنشاء «يورو رقمي»، وستكون العملة الرقمية للبنك المركزي «سي بي دي سي» نسخة إلكترونية عن الأوراق النقدية والعملات المعدنية باليورو، كما تدرس الولايات المتحدة إقحام العملات المشفرة، في سلسلة جديدة من العقوبات المحتملة ضد روسيا. ويرى الخبراء أن حظر المعاملات عبر العملات المشفرة أمر صعب، نظراً لأن العملات الرقمية الخاصة بطبيعتها مصممة لتوجد بلا حدود وفي الغالب خارج النظام المالي الذي تنظمه الحكومة. وبالتالي، فإن سن عقوبات على العملات المشفرة سيكون صعباً. كما أن عدم مركزية العملات المشفرة يضع عوائق على مثل تلك الخطوات، خاصة أن مجتمع العملات المشفرة تأسس بشكل أساسي، بهدف توفير قدر أكبر من الحرية المالية للأشخاص في جميع أنحاء العالم.
في النهاية، يتضح أن تخفيف قوة العقوبات الأمريكية يأتي من نظام تكون فيه هذه الدول قادرة على إجراء المعاملات دون المرور عبر النظام المصرفي العالمي، وهو ما تحاول روسيا القيام به جاهدة، وهو أيضاً ما تم ملاحظته فى روسيا بشكل كبير حيث ارتفع متوسط عدد معاملات العملة المشفرة منذ بدء الحرب فى أوكرانيا، وتضع الأرقام قفزة فى حجم تداول الروس فى العملات المشفرة بعد وقت قصير من إعلان العقوبات الاقتصادية الدولية. فقد بلغ حجم تحويلات الروبل إلى عملات مشفرة ثابتة أو عملات رقمية عند أعلى مستوياته ربما منذ 2021، كما سيكون من الممكن استخدام الروبل الرقمي عند إصداره رسميا هذا العام لتسديد المدفوعات للمؤسسات والدول، وإجراء تحويلات الأموال، ودفع المعاملات باستخدام الأدوات المالية والأصول المالية الرقمية.كذلك الحال بالنسبة لأوكرانيا التى بدأت تقنين العملات المشفرة رسميا. وهو ما يشير إلى أن البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى أصبحت الآن عاملاً حقيقياً في الاقتصادات العالمية ووسيلة جديدة للالتفاف في حالة الصراعات.