من فكتوريا وحتى اليزابيث : مليكتان تحتكران التأريخ العالمي
زيارة الراحلة للخرطوم والحنين لأزمنة العافية
سيف الدين البشير
طبيعي جداً أن يضج العالم إثر رحيلها ، ويكفي تلك الأرقام القياسية التي سجلتها في ذاكرة التأريخ . وربما أن الوسائط الخبرية والإجتماعية لم تردد إسماً ، ولم تعرض صوراً في تأريخها كما فعلت غداة إعلان رحيل ملكة بريطانيا السابقة إليزابيث الثانية .
وفقط للمقارنة التأريخية فقد سبقتها بطول البقاء في التاج البريطاني ملكة سابقة هي فكتوريا عبر 64 عاماً . وما بين الملكتين اللتين احتكرتا التاج البريطاني 134 عاماً أربعة من الملوك الرجال هم
إدوارد السابع وجورج الخامس وإدوارد الثامن وجورج السادس حيث لم تتجاوز فترتهم 51 عاماً ، أي بمتوسط يقل عن 13 عاماً لأيهم .
وربما تميزت حقبة فكتوريا ( 1837 – 1901 ) بأنها شهدت تنامي المستعمرات البريطانية مبلغ أن أطلق عليها (ملكة بريطانيا والهند ) ، كما أنها زوجت الأبناء والبنات لأمراء أوربا وكفلت عبرهم ولاء تلك الدول .
وبالنسبة للملكة إايزابيث فقد ورثت التاج خلال حقبة عالمية هادئة من حيث الحروب رغم الإضطراب السياسي وتنازعات الحرب الباردة ، ولقد أفلتتها الوقائع الدامية ما بين حروب أوروبا والحربين الكونيتين ، كما أن حقبتها شهدت زروة الفتوح العلمية في الفيزياء والطب والفلك والفضاء والاتصالات وخلافها .
اليزابيث والسودان :
وفي حين أن سابقتها فكتوريا شهدت حدثين سودانيين بارزين تمثلا في هزيمة بريطانيا ومقتل غردون ، ثم عودتها عبر معركة كرري وإعادة احتلال السودان . بالمقابل فقد شهدت اليزابيث استقلال السودان الحدث الأبرز في تأريخ البلاد الحديث . بيد أن الأبرز في تأريخ البلاد تمثل في زيارتها الخرطوم العام 1965 ولمدة خمسة أيام .
ورغم آلاف الأخبار والصور المتعلقة بالملكة الراحلة تناقلتها وسائل الإعلام السودنية ، ووسائل التواصل الاجتماعي للسودانيين ؛ الا أن مقطع الفديو وهي تهبط مطار الخرطوم كان هو الأكثر رواجاً على الإطلاق ، جنباً الى جنب مع الصور المتعلقة بالزيارة .
أحلام الصولة :
ولعل العامل الأبرز لرواج متعلقات الزيارة هو حنين السودانيين لبلادٍ كان لها وقعٌ وموقع وتأثير في محيطيها الإقليمي والعالمي يوم أن كانت قبلةً لزيارات الزعماء ، في زمانٍ تماسكت لحمتها السياسية ، وتكاملت عندها الرؤية تجاه العلاقات الخارجية ، واستوت الخدمات كأفضل ما يمكن .. إن أبرز الأدلة هي صوت عشة بت عزيزة وما نزال يفعاً بقرية المغاوير وهي تحيي الزعيم الأزهري :
حررت الناس يا اسماعيل ..
الكانو عبيد ..
يا اسماعيل ..
الكل بقى سيد ..
يا اسماعيل
ويوم صدح شاعرهم بالقول :
أهلاً ثم أهلاً ديمة
بيك يا الأزهري بطل البلاد وزعيما ..
يا القائدنا للخير بي قيادة حكيمة ..
يحميك الإله والمرضعاهو حليمة ..
وعلى الجانب الآخر كانت ليالي منشد الجبلاب محجوب ود سمورة ؛
أصحاب ابو البشرى ..
الفازو بي الشكرة ..
الحررو لي السودان وصفوها من عكرة ..
ويسترسل الرجل لثوبه الأبيض الناصع ومخارج حروفه المبسقة :
أبو منو بلا أبوك سيف العشر كاتلبو
أبو منو بلا أبوك تبس التمامة قدلبو
وكانت زيارات الإمام الهادي المتكررة التي يعدون لها العدة ، وتتزين لها دار الذكر لشهور .
كان للبلاد هيبتها واستقرارها ، وللخرطوم صدى يشنف أسماع الإقليم ويخطف أبصار العالم ، وللعملة السودانية قيمتها والبعير والعمامة كلاهما أنموذجٌ لعافية الإقتصاد .. جادك الغيث إذا الغيث همى .
كان السودان وقتها يستقبل زعماء العالم والأقليم .. زعماء مصر والخليج والعالم ، وكان جذوة الثوار الأفارقة ضد المستعمر ، وردد أهل السودان أسماء باتريش لوممبا وكوامي نكروما ونلسون مانديلا الذي منحه السودان جواز سفره الذي تنقل به مبشراً بالزمن الجديد في جنوب أفريقيا ..
وسيذكر السودانيون أن بوش الأب قد زار السودان إبان توليه منصب نائب الرئيس ريغان كآخر زيارة لكبار الغرب بمعية زوجته باربرا بوش التي لم تتجاوز تلك الزيارة في مذكراتها الصادرة خلال النصف الأول من عقد التسعينات .
وفيما يعايش السودان مخاض الانتقال تداعب أخيلة أهل البلاد الأهزوجة السائدة :
يا زمان هل من عودة هل ..
أو لنتخير رائعة محمد ميرغني :
واقول يا ريت زماني الفات ..
يعود تاني وأعود تاني ..
تتعشم البلاد أن ينجح ربان السفين البرهان في ضبط ذبذبات البوصلة بحيث تعود هذه البلاد لسابق عهدها ، وفي يد الرجل كل الأوراق ، وفي البلاد موارد يشهد بها العالم ، وهي عدة كفيلة بالعود الأحمد .