من يعش ويرى مثلما رأيت هنا اليوم :(سبيل ماء) يلفت نظر الشيخ الراجحي في صحراء بالسودان
بقلم : اللواء الركن الهادى بشرى حسن والى الولاية الشمالية الاسبق ..
التقيت بالشيخ سليمان الراجحى عندما جاء الى السودان لأول مرة بغرض الاستثمار الزراعى … ما لفت نظر الشيخ أكثر هو كثرة (السبيل) وهو مبنى صغير يظلل عددًا من الأواني الفخارية الكبيرة، الممتلئة بالماء لسد حاجة المسافرين والعابرين بلا مقابل، يوقفها الأخيار صـدقة لله ، طلب منا الشيخ التوقف عند أحدها ، وكانت عند التروس العليا لمدينة القرير، التي نراها على بعد عدة كيلومترات، ترقد قرب النيل.
فترجل ودخل ذلك المكان الظليل النظيف للغاية متفقدًا الأزيار الستة الكبيرة الحمراء المنتصبة على قاعدتين من الإسمنت، وهي جميلة، وضع عليها كاسات معدنية وأكواب زاهية الألوان. سأل الشيخ عن راعى المكان، وكيفية تدبيره؟ ومتابعة ذلك باستمرار بهذه الصورة الزاهية، الجميلة، فيشرب العطشى طوال الطريق سيما والمكان خلاء قفرا ؟؟ .. والنهر يبدو بعيدًا… هممت أن أرد على سؤاله إلا أن امرأة عجوز، تحمل أعلى الرأس جرة ماء كبيرة، دخلت علينا، وصاحت: “يا وليدى… ألحقني … نزِّل مني حِملي التقيل، قبال ما يقع مني… الشيلة تقيلة والمشوار بعيد، وأنا كبيرة وعجوز”! قمت بما أمرت العجوز ، فحملت الجرة، وأفرغت الماء في أحد الأزيار… لتستريح من عناء المشوار الطويل والحِمل الثقيل، ورفعت يديها للسماء حمدًا لله وشكرا… صديقنا الشيخ الراجحي تابع ما دار بيني والعجوز. وبدا على وجهه إعجاب وسعادة فائقة مثل كل ما لحظته عليه طوال زيارتنا النهارية، الجميلة، الموفقة، الناجحة، الفريدة، وكنا نأمل أن تعود على الولاية بخير وفير… شيخنا الراجحي صرفته شيختنا العجوز وجرة الماء، عن كل أمر سواهما. فجلس على الأرض الى جوارها، وأمطرها بأسئلة في قالب لطيف و رزين لا يقابل إلا بمثله… بل يستحق أكثر… فحق الضيف أن يحترم. فأفادته بأدب واحترام أنها “معلمة تقاعدت بالمعاش عندما بلغت الستين… إلا أنها استمرت في العمل لسد النقص في المعلمين بالمدرسة، بلا مقابل، فلديها مال يسدُّ كل حاجاتها، ولديها نخيل ومزرعة، وبعض رؤوس الأغنام والأبقار ، ويقوم زوجها وأحد أبنائها بإعانتها عند الحاجة، وهي ترى أن سُقيا الناس من هذا السبيل أحد أهم ما تقوم به يوميًا… فهي تزور السبيل يوميًا في رحلة لستة كيلومترات جيئة وذهابا ولا يحبسها عنها إلا المرض المقعد! وهي قد جاوزت السبعين بسنوات ثلاث، ولربما أكثر”. قالت كل ذلك في مودة ولطف مع الضيف السعودي “المبرو ك السعيد الساكن الحرمين” كما وصفته، وهي مستغربة متسائلة عن “الشيء… العاجبو في ديار الشايقية”؟! .. وهمَّت بالنهوض لتنصرف فاستبقاها الشيخ وقدم إليها حزمة كبيرة من الريالات السعودية وحاول وضعها بكفها الخشن المعروق… فجفلت جفلة كالملدوغ وصاحت: “وى .. وى علي.. سجم أمي.. حدثوا ضيفكم.. قولولو موية السبيل ما للبيع؛ دي صدقة لي الله” وانطلقت هاربة من الموقف الماثل، عائدة الى القرير، تابع الشيخ الضيف، وهو يقف ويده تحمل الحزمة النقدية حركة المرأة تلك وهي تجري مبتعدة حتى توارت خلف الكثبان الرملية… عندها بدأ يتمتم كالمعتذر لها و لمن حوله: “هي هدية… هي ليست ثمنًا للماء. هي هدية لوجه الله.. لوجه الله”. أطرق الشيخ الراجحي قليلا وأشاح بوجهه بعيدًا برهة نحو السماء ووجهه أكتسب نضرة و هيبة و بهاء، ثم رفع رأسه عاليا، وقال: “من يعش ويرى مثلما رأيت هنا اليوم ويشهد ما شهدت هذه الساعة، في هذا المقام مع هذه السيدة الكبيرة بمعناها القريب والبعيد، يجد نفسه في عهد هو التزام وميثاق مع أهل هذه البلاد ليجعل من هذه الارض قِبلة للناس، وإنى لفاعلٌ بإذن الواحد الأحد رب العالمين”.