هنا أمدرمان

من هنا كان الفرح  ، والجاهلون يعيبون علي شعبنا الفرح   ، ويستنكرون عليه البهجة ويتهكمون عليه حين إنتشأ ، وكيف لا يفرح بل يغرد في رحلة بين طيات السحاب وقد غسلت الإذاعة أدرانها ورمت خبثها وأبادت جراثيم الجهل التي أحاط بها ولم تعرف قدرها  ، بعض الجاهلون يتحدثون عن مرافق أخري وبجهلهم لا يفرقون ، فأغفر لهم يا ربي إنهم لا يعلمون  ، فالإذاعة هي حيثية العاصمة الوطنية ، والعاصمة الوطنية هي البقعة العزاها الله ، بل هي الطابية المحاذية النيل  ، بل هي كعبة شاعر الأمة الخليل فرح حين قال ( قدله يا مولاي حافي حالق في الطريق الشاقي الترام ) فأنظر أيها المتأمل كيف أحتفي بها كاحتفاء الحجاج والعمار ، وذلك لمكانتها وعلو كعبها  ، كما هي تنادي أنا أمدرمان تأمل في ربوعي  ، وقبل إنحطاط الكلم كانت محطة شعراء الحقيبة ووادي عبقر ومهبط وحي الشعر وسار فيها العاشقون وهم يترنمون فمنهم من ظفر ومنهم من مضي عقله وقلبه فوق ذلك إنفطر  ، فهنا أمدرمان مكان الكفر والوتر ،  وصوت الأزهري النبراس ، وعرصاتها التي مشت فيها المحبة وسما فيها الحب وجدية المسالمة ولي في المسالمة غزال كم ملكت قلوب وسلبت عقول  ، وقد كانت الإذاعة نافذة ذلك ، كان صديق أحمد حمدون وبصوته الشجي يرتل الآي والعلامة عبدالله الطيب يشرح الكلم في بساطة أهل السودان ، كانت أغاني التراث والحماسة وفنون الأدب وفراج الطيب وربوع السودان والطيب محمد الطيب  ، وكل شئ يخرج منها طيب الي أهل البلد الطيب ، وعالم الظهيرة وعالم الرياضة  ، وجراب الحاوي وتور الجر والدهباية وفرسان في الميدان ومن هذا العنوان تهكم بعض ظرفاء المدينة علي الجاهلين ثم وصفوهم  ب ( حملان في الحيشان ) إنها الإذاعة سادتي حين تنادي هنا أمدرمان  ، ينتظرها الطلاب المنتقلون من مرحلة الي مرحلة في كل ربوع السودان ليسمعوا أساميهم وذلك حين كانت الألف الميته معلومة والتنوين لا يكتب نونا  ، تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، فالإذاعة سادتي هي ذاكرة الأمة السودانية ، هي تاريخها حاضره وتليده  ، ومعاذ الله أن يكون للجهلاء في الفرح نصيب ولا يعرف الفرح قلب عريض الوساد أقم القفا الذي وضع خيطا أبيضا وآخر أسودا ليتبين الخيط الأبيض من الأسود. من الفجر  ، وما علينا فقد مشت علي الرسم أحداث وأزمان  ، هنا أمدرمان إنها ذاكرة أمة وعنوان مجد وفرحة شعب  ، ونبراس يرسل خيوط نوره  ، وراديو يتأبطه الرعاة حلا وترحالا  ، وقد كان المذياع والإذاعة لوالدتي عليها الرحمة رفيقا ولم تعرف للفصول سبيلا لكنها من الإذاعة تعلمت وللأخبار ذكرت وعلمتني وأخوتي بأن خير جليس في الزمان كتاب  ، فهنا أمدرمان كانت الحب ، ولو لم تكن الحسناء تملك لبك كله ولو شملتها رقة وجمال  ، ولكن هنا أمدرمان يخفق قلبك حين سماعها ، تحكي قصص وتروي تاريخ بلسان شعبها وبكلام الفرنجة ولسان العرب ، وكلمة الفرنجة ساقتني لملحة العلامة عبدالله الطيب والعهدة علي الرواة الذين ساقوها ولم أكن من شاهديها ، وذلك حينما تطاول عليه بعضهم  ، فما كانت من حليلته وقد خانها النطق حين قالت ( مالكم تتلاوطون علي عبدالله الطيب ) وهي تقصد تتطاولون وقد زاد عليها البروف بملحة أخري  إذ قال ( لم تخطي بنت الفرنجة )  ، ألم أقل لكم شعب ظريف وأرض طيبة ورب غفور  ، فهذا قليل من كثير ويا ويح قلبي من لساني الأعرج وقلمي المكسور  ، فهل أختم بعالم الرياضة أم أقول هنا أمدرمان إذاعة جمهورية السودان .





  محمد عثمان المبارك