Uncategorized

*كتب**العقيد الركن الحوري*في القليل كُلنا أُمناء أتقياء،الكثير هو الذي يكشف الصادق من المُدعي

المسار نيوز *كتب**العقيد الركن الحوري*في القليل كُلنا أُمناء أتقياء،الكثير هو الذي يكشف الصادق من المُدعي

هذا صباح أحد الأيام الدراسية لشهر يونيو من العام 2004،الميدان الفاصل بين مدرسة القوز ٣ الأساسية،ومدرسة الحميراء الثانوية للبنات…الميدان ممتليء بالباعة الذين يبيعون ما لذ وطاب، كنت حينها أنا طالب الصف الثالث أُخرِج ال20 قرشاً لشراء حلوى الشعيرية الموضوعة في ورق الجرائد،مالي يكفي لشراء قطعتين لا أكثر…لكن البائع غَفِلَ وأعطاني ثلاثة أكياس بدلاً عن إثنين…أعلم أن الحلوى شهية حينها لكن لا يمكنني أن أفقد أمانتي من أجل كيس،أخبرت البائع بالكيس الزائد وسرحتُ بخيالي كيف أنه سيشكرني ويشكر أهلي الذين أحسنوا تربيتي،بل كنتُ متأكداً بأنه سيدخل لمدير المدرسة -حينها المرحوم ومعلم الأجيال “عثمان شيخ إدريس”- ليخبره عن التلميذ الأمين ويمكن أن يُقرع الجرس لطابور مفاجيء للإشادة بتلميذ الصف الثالث بملامحه البرئية،وسيطالب بحضور ولي أمري لشكره أيضاً…كل هذا لم يحدث منه شيئًا، إكتفي بمسح رأسي وإبتسامة مع كلمة “شكراً على أمانتك،خلي الكيس معاك”…الآن دعك من 2003،تعال إلى 2023…إذا كنت من الذين جاءوا إلى سلاح المدرعات بعد إسبوع أو عشر أيام بعد بداية الحرب ستسمع بذلك الملازم وقصته الشهيرة…كانت القصة هي الصنف الحاضر لكل جلسات العسكريين في ميز الضباط،في قهاوي سوق الشجرة،وحتى الدفاعات وثكنات ضباط الصف والجنود…صنفه البعض مجنوناً أضاع فرصة كبيرة لتغيير وضعه،وصنفه البعض أميناً صادقاً ومثالاً يُحتذى به…الملازم”صديق” حديث التخرج،الصغير سناً والكبير فعلاً،يُجهز أفراده،يُتمم على أسلحتهم وذخائرهم فقد جاءته تعليمات بتواجد العدو في إحدى شقق حي جبرة…المأمورية محفوفة بمخاطر لا تحدها حدوها،على ذلك إنتشار القناصين..البعض نعاه وحسبه في عداد الموتى لأن النجاح ضئيل…المفاجأة أنه نجح في مداهمتهم وقتلهم وأخذ منهم أسلحتهم وعدتهم وعتادهم،ومبلغ 24مليار جنيه،هذا إختبار حقيقي للأمانة وهنا يُعرف الرجال…ببساطة أخذ المبلغ وكل ما وجده وسلمه لقيادة المدرعات..أعتقد أنه لو أخذها كلها والرجال الذين معه لما ظننت أن يلومه أحد أو أن يعرف أحد…أعطته القيادة منها 2 مليار كحافز على أمانته ومخاطرته،الغريب أنه أخذ حافزه وحل به مشكلة كل ضابط صف أو جندى جاءه في حوجة أو أهله بحاجة لمبلغ للسفر خارج الخرطوم، وباقي المال دفعه لدعم وجبة الأفراد والضباط…هذا هو الملازم “صديق”،شاب طويل القامة هاديء الطبع ،كسته الشمس سمرة نعرفها وتعرفنا،يصول ويجول في كل الأنحاء والجبهات لسلاح المدرعات،يتسلل إلى أعماق العدو في شارع جبرة وتقاطع البيبسي، يدخل إلى السوق العربي بدباته،ينقطع عليه طريق الوصول إلى القيادة..بدلاً عن الرجوع إلى المدرعات يتجه إلى الإستراتيجية بالقرب من الإستاد،يضرب معسكر العدو بشارع الغابة منذ الظهر،يُحلل صيامه بجرعة ماء فقط ويكمل ضربه ويدمر معسكر العدو…في يوم 21 أغسطس،أنا مصاب في مستشفى المدرعات بعد أن تم إخلائي بواسطة جنود أُدين لهم بحياتي لمخاطرتهم الكبيرة وكادوا أن يفقدوا حياتهم في سبيل ذلك..مع النزيف وفقدان الدم تكون في وعيك لدقيقة،ثم يُغمى عليك…أفتح عيني بعد إغماء طويل لأجد الملازم صديق إرتقى شهيداً جثة أمامي مصاباً في رقبته،يعلو فمه إبتسامة راضية وسبابة في وضعية التشهد…رفض جنوده تركه أيضاً،بل وتجاسروا عليه لأول مرة وخالفوا تعليماته التي صرفها لهم وهو يلفظ آخر أنفاسه ليخرجوا ويتركوه، بصوت واحد “مخالفين سعادتك،يا مرقنا كلنا يا متنا كلنا”…قال لي أحد جنوده ذات مرة “هذه المرة الأولى التي نسمع فيها الضابط يقول لجنوده إتبعوني،بدلاً عن قوله لهم تقدموا،هذا رجل لا يمكن أن نتركه وراءنا ولو كان جثة”…كأنه يقول لهم كما قال الشاعر الكبير الكتيابي:إفسحوا الدائرة حولي إنني مُلقٍ عصاي…وأرقبوا يا قومَ قولي وأتَّبعني يا فتاي…أسأل نفسي دوماً بعد أن روى صديق شوارع جبرة بدمائه وأستشهد مدافعاً عنها،هل تعود شوارع جبرة وشققها المفروشة وكافياتها المشبوهة للعهر والدعر الذي كان من قبل؟!،هل تعود ميادين جبرة لترويج المخدرات ومباديء العلاقات الجنسية،بعد أن رواها وجنوده بدمائهم؟!…هل كان يدري يوماً أنه من الممكن أن تعود لسابق فسادها؟!…هل كل هذه الدماء ستُنسى كما لم تكن من قبل وُجدت؟!…لن تتزين المقررات الدراسية للطلاب بعد سنين بمقالات عنهم وقصص لتُخلد من ذكراهم أم سيأتي زمانٌ يسبهم معتوه ويقول بأنه ماتوا “فطائس”؟!…لو حاول أن يسأل نفسه هذه الأسئلة لوضع سلاحه ومضى إلى بيته…بعد الحرب هل سيأتي يوم لمن بقى حياً من جنوده ليكابد فيه ليكمل شهره براتب لا يكفي إسبوعين؟! هل سيعانون عشرات السنين لخطبة حبيباتهم؟!،هل العسكر وعسكر الملازم “صديق” مأجورة يا نورة أم ماذا ؟!…دائماً هنالك من يهبوننا حياتنا بدفع حياتهم ثمناً مقابل ذلك…إلى صديق الذي ينام في قبرٍ وحيداً في مقابر المدرعات،إن سِيَر الرجال يجب أن تكون تاريخاً يتدراس،ونبراساً يضيء عتمة الليالي…إنني مديون إذا أطال الله عمري بعد هذه الحرب ومطالب بتقديم واجب العزاء بولاية نهر النيل منطقة المناصير ولأشكر الأم والأب على حسن تربيتهم،فقد أخرجوا لنا رجلاً كثير الوقار،مهيباً أغر…لو لم تنجب القوات المسلحة غير الملازم صديق لكفاها،ولو لم تنجب الدفعة 67 غيره لكفاها أيضاً…كلنا أُمناء في أكياس الحلوى،لكن ال24 مليار تحتاج لرجال من نوع صديق…ألا رحم الله صديق وأسكنه فسيح جناته،اللهم إنه قد مات دون أرض وعرض ومال المستضعفين في الأرض من الرجال والنساء، اللهم تقبله شهيداً عندك،ما علمنا عليه سوءاً قط…#صديق_شهيداً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى