تعليقاً على جزء من مقال: الحركة الإسلامية: (لمة) بلا مشروع
أمل الكردفاني
استعرض أحدهم -لم أجد تذييلا باسم كاتبه- مقالاً كتبه التجاني عبد القادر، عن الحركة الإسلامية وفيه نقد لحركة بلا مشروع.
طبعاً هذا كلام متفق عليه، ويمكن أن نضيف أنه لا الشيوعيين كانوا اصحاب مشروع ولا الإسلاميين ولا العساكر ولا حتى حمدوك الذي أكد ان قحط لم توفر له مشروعاً!! بل وحتى فولكر. فمن الذي كان له مشروع في السودان في يوم من الأيام؟ وقد كتبنا عن هذا الكلام منذ سنوات.
غير أن كاتب المقال أشار مؤكداً اشتراكية الإسلام. وأنها -اي الاشتراكية- ليست الشيوعية، وهذا كلام فطير ينم عن عجلة، وارتداد إلى تاريخ قديم من الجدل حول اشتراكية الإسلام أم ليبراليته، ثار منذ عقود، وكانت هناك تحالفات فاشلة بين الاشتراكيين والإسلاميين كما في اندونيسيا مثلا وانتهت بالعداء بل والموت.
والحق أنني لم أجد في الإسلام أي اشتراكية، اللهم إلا في الكلأ والماء والنار، وهذا بتأويل واسع للمعنى الحقيقي والمقصور في حقيقته على إعانة الطالبين في المفازات، في موطئ السائمة. أما الواقع الراهن فأكثر تعقيداً من ذلك.
الإسلام من وجهة نظري ظل يدعم الرأسمالية سواء (الإقطاعية) أم (التجارية-الصناعية) بقوة، وذلك بالتأكيد على أن الطبقية قدر إلهي.
جاء في سورة النحل:
(وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ فِى ٱلرِّزْقِ ۚ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ)- النحل ٧١.
فهذه الآية حاسمة، ليس فقط في رد الطبقية لله بل وحتى في تأكيدها على فشل فكرة الإشتراكية. يقول الطبري:(يقول تعالى ذكره: والله أيها الناس فضّل بعضكم على بعض في الرزق الذي رزقكم في الدنيا، فما الذين فضَّلهم الله على غيرهم بما رزقهم ( بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) يقول: بمشركي مماليكِهم فيما رزقهم من الأموال والأزواج.( فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ) يقول: حتى يستووا هم في ذلك وعبيدهم، يقول تعالى ذكره: فهم لا يرضَون بأن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواء، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني ، وهذا مَثَل ضربه الله تعالى ذكره للمشركين بالله).
وفي سورة الزخرف مثل ذلك:
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)).
وغير ذلك من آيات كثيرة. بل أننا لو عدنا إلى السيرة النبوية فسنجد أن الرسول (ص) قد فعل مثل ما كانت تفعله أمريكا اليوم، فقد كان يشتري آلات الحرب من الحدادين بالأجل، ثم يدفع لهم بعد نهاية الحرب. وهذا عين علاقة الحكومة الأمريكية بشركات صناعة السلاح هناك. والأوضح من كل ذلك هو أن الصحابة عندما طلبوا من الرسول تحديد الاسعار بسبب ارتفاع اسعار السلع قال لهم: المسعر هو الله. فالله يكتب الأقدار، فيرزق هذا ويرزق ذاك، فيتبايعوا ويشتروا، فتتحدد الأسعار على هذا الأساس (قانون السوق)، وباختصار فإن الله المقصود هنا هو (قانون السوق) (ذكر الكل وأراد به الجزء ولكن برد الجزء إلى أمر الكل).
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعاً: قال الناسُ: يا رسولَ الله، غَلَا السِّعْرُ فسَعِّرْ لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ هو المُسَعِّر القابضُ الباسطُ الرازقُ، وإني لأرجو أن ألقى اللهَ وليس أحدٌ منكم يُطالِبُني بمظلمةٍ في دمٍ ولا مالٍ».
رواه ابو داود وابن ماجة والترمذي وأحمد.
فضلاً عن ذلك فإن الإسلام لم يحرم العبودية، بل أنه جعل من فرار العبد من سيده كفراً. فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ )
رواه مسلم (رقم/68) .
ذلك أن العبودية كانت نظاماً اقتصادياً واسعًا، ولو تم تحريم العبودية لانهارت اقتصادات تلك الشعوب الدول وعم الفساد في الأرض، لأن العبيد (مال)، يباع ويُشرى، فهو متقوم (مشروع التداول) ومقوم (مثمَّن). وظلت العبودية إلى وقت قريب في سائر الدول الإسلامية لم تنتِه إلا بعد اتباع الطبقة الراسمالية (الصناعية-التجارية) سبيلاً أكثر إفادة لها من العبودية التي كرستها (الرأسمالية الإقطاعية) عبر التاريخ. وهو العمل التعاقدي، والذي أفضى -ولا زال- إلى استغلال أصحاب العمل للعمال استغلالاً فاحشاً لا رحمة فيه. ذلك أن العبد عندما كان مالاً كان سيده يخشى عليه من الهلاك، فكان يطعمه ويكسوه ويسكنه ويداويه عند المرض، أما العامل فعلاقته تعاقدية، وكانت العقود مجحفة جداً بالعمال، إذ أن تحرير العبيد زاد من عدد العمال، فاضطروا للتعاقد بعقود مجحفة جداً -ولا زالوا- حتى جاءت الثورات الشيوعية كطريق ثالث بين سطوة الرأسمالية الإقطاعية والرأسمالية الصناعية التجارية، ورغم أنها أثرت في عقود العمل تأثيراً إيجابياً بحيث أضحت أقل إجحافاً وظلماً من ذي قبل، لكنها لم تحقق كل الحماية التي كانت مكفولة للعبد عند سيده. لذلك فإن أغلب العبيد رفضوا تحريرهم وبقوا مع أسيادهم دهراً لجيل أو جيلين ثم تبددوا وانخرطوا في النظام الرأسمالي الجديد الذي قوض سلطة الإقطاع القديم والعبودية القديمة واستبدلها بإقطاع التجار والصناعيين والعبودية الجديدة.
ولولا نقابات العمال ومنظمات العمل الدولية، والتي نتجت كلها كرد فعل على الثورات العمالية المتأثرة بالماركسية، لظل العامل إلى يومنا هذا يحصل على أجره من السلعة التي ينتجها رب عمله، فإن كان يعمل في مصنع طحنية كانت أجرته ربع كيلو طحنية، وإن كان يعمل في مصنع ملابس اعطوه نصف دستة من القمصان، وكان ذلك ما ساد في العصر الصناعي الأول وزاد من مآسي العمال حتى نشأت الجمعيات التعاونية ليتمكن العمال من تبادل سلعهم بشكل سلس وتخفيف الضغط عليهم مثل ما حدث عام ١٨٤٤ حين نشأت جمعية روتشديل التعاونية The Rochdale Society of Equitable Pioneers.
لذلك فمن يتحدث عن أن الإسلام دين اشتراكي، فهو واهم، ولكنه دين يحث على العدالة في القضاء والاقتضاء يلخصه حديث صحيح جاء فيه: (يقول الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره).
فيجب أن يُعطى الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، ولم يتدخل الإسلام في طبيعة الأجر ولا شكله، ولكننا نجد قصة موسى حين استأجره الرجل الصالح مقابل نكاح إحدى ابنتيه. وهذا فيه إباحة لشرع من قبلنا للأجر العيني أياً كانت طبيعته.
وفي كل الأحوال، سواء كان رأينا هذا صائباً أم خاطئاً فإن حسم الجدل حول موقف الإسلام من النظريات الاقتصادية ليس محسوماً، ويمكن أن تُكتب فيه مجلدات ضخمة دون أن نصل إلى رأي جازم، لأن الإسلام لم يأت كنظام اقتصادي بل تعبدي توحيدي، أما غير ذلك فهو من باب سد الإنسان لحاجاته بحسب الاختلاف في كل زمان ومكان.