راي المسار
طغيان اليم الغامر والحزن المِلحْ وهذا العجز
ضياء الذي أعلم حصينٌ ضد منطلقات “المحبين الجدد”
المناقل الأولية الألح وشعارٌ عام :الجهد الكلي لردع السيل ورفع الأضرار ..
بقلم رئيس التحرير
وآفة السيول في جوهرها ابتلاء يوجب الصبر والحمد . وما بين الدولة العظمى وحتى الهند يتمرد الماء الذي هو سر الحياة ، يفلت اللجام والعقال – وإن قد من الصخر أو الحديد – ويعدو على المساكن وبني البشر وبهيمة الأنعام .
- حتى في جزيرة العرب التي تصنف كصحراء من سلطنة عمان وحتى الحجاز ، ورغم التخطيط الذي يتحسب للمخاطر ، والإمكانات الهائلة يغضب اليم ، ويتقاطر الوابل الثجاج وتتفاقم الأضرار ، ولعل الخالق ينبه الانسان الخليفة أن الحذر لا ينجي من القدر .
- أما الفارق بين بلاد وبلاد فهو سرعة الاستجابة ، ونجاعة التصدي للكوارث و”على قدر أهل العزم تأتي العزائم” .
- ردود الفعل تجاه ما حاق بالبلاد تتفاوت وفقاً لفداحة القرح ، ولموقف أيٍّ منا من مظاهر المعاناة ، وطبيعي أن “الايدو في الموية ما زي الايدو في النار” .
- وضياء الدين بلال أعرفه عن قرب . العام 1996 قدمت لتوي من الدوحة ويومها لم يكن في ساح الصحافة سوى صحيفتي الانقاذ الوطني والسودان الحديث ، والثانية كان يترأس تحريرها الصديق الصحفي المهني القامة فتح الرحمن النحاس . استقبلني بمكتبه وحرص أن يقدمني للزملاء . وبعد العديد من الزيارات تعرفت عن كثب على غالبهم .. ثم اقتربت من الثلاثي الأكثر تميزاً ؛ البدوي يوسف ، اسماعيل آدم وضياء بلال ، وقدرت آنذاك أنهم نجوم الصحافة السودانية ، بل أنهم مستقبلها . وتقاصرت المسافة بيننا عبر علاقتنا بالشعر وإبداع الكلام .
- في ظل مغادرة الزميلين “اسماعين” كما كنت أناديه ، والبدوي يوسف عن الصحافة السودانية ، استقر عليها ضياء حتى بلغ ما بلغ من شمول النشاط بعد أن ثبت اركان “السوداني” . في غضون ذلك ظللنا على تواصلٍ ما كدره موقف واحد ، ولا طاله انقطاع ما بين العام 1996 وحتى يومنا هذا ، ما يقارب ربع قرن .
- علمت أنه غادر البلاد فتمثلت الصديق الشاعر مصطفى سند :
أساك يا بنيتي أسى أبيك منذ أن تفتحت أزاهر الهموم في دروبه ، وهاجر الذين يعرفون ، واستحالت المواقف الكريمة . - طوال عهدي به أشهد أنه ظل ذات الرقم الإعلامي المتقد ذهنه ، المتقيد بقيم المهنة وأخلاقها وبمسلك الانسان الانسان ، لم يلحن في القول ولا حرفته مشاعره الخاصة عن أدبيات المهنة .
- تتبدل السوح السياسية ، ويبدل البعض الأقنعة ، بواقع قناع لكل مؤسسة ، وآخر لكل مسئول ، وثالث لكل حقبة سياسية لكن ضياء ظل مهيباً كنصل السيف “ما بلخبط الكيمان” ، وبمعيار يضع السيف والندى أياً في موضعه .
- الجزيرة عامة والمناقل ربما عانت الخطب الأفدح جراء السيول ، لكن محلية بربر سبقتها ، وما حملته صور الأسافير جسد معاناة لا قبل للبشر بتحملها .. دهمني الحزن المالح ومنازل القرى تذوب كقطع الثلج داخل تنورٍ بدرجة الغليان ، مبلغ أن كنت أكفكف عجزي بصرف وجهي عن بعض الصور ومقاطع الفديو ، والصبايا يحملهن صبيان يفع من الماء الى الماء ولا ملجأ .
- عندها أدركت أن زفرة ضياء التي قارن خلالها بين زيارات القيادات لمحلية بربر ، وبين ما تشهده المناقل ليست خروجاً على مألوف رد الفعل التلقائي تجاه قرح تنوء بحمله الراسيات .
- واليقين أنها “زفرة” ، وقودها هذا الحزن اللئيم ، وانعدام الحيلة لردع غائلة السيل .. ضياء الذي عرفت لم ينطلق أزل ممارسته المهنة من خندق الجهوية أو القبلية أو الحزبية بل ظل نموذجاً في اعتدال المعايير ، ولكم واسى ولاية نهر النيل في كل مصاب .
- منذ قدومي من الدوحة قبل ما يقارب ربع قرن ظللت أحمل هم ولاية نهر النيل حتى وصفت بالجهوية قبل شيوع هذا المصطلح ، وبذلك يشهد عمودي الصحفي “هذا كتابي” الذي تنقل بين ألوان والوطن والصحافة والصحافي الدولي ، وما نهنهت عن الإنحياز لقضايا الولاية ، ومن ليس فيه خير لقريته ولمنطقته لا تتوقع منه خيراً لبلاده ، ومن هنا لا يجب أن تحمل “زفرة” ضياء أكثر حجمها ، أو تفسيرها خارج هذا السياق .
- قبل عامين ضرب فيضان النيل قريتنا المغاوير ، وأحال منزلي الذي شيدت ما بين فرثٍ ودمّ أثراً بعد عين رغم جهد الرجال لانقاذه ، وقد قعدت بي الحيل حتى عن إعمار سوره حتى اليوم ، وما بقي منه غير تمثل ابن الفارض :
قف بالديار وناجي الأربعَ الدُّرَسا
ونادها فعساها أن تجيب عسى . - نأسى لما أصاب البلاد في دارفور ونهر النيل وكسلا وبقية الحواضر المنكوبة ، ويقتلنا العجز تجاه ما تشهده الجزيرة واسطة العقد .
- أما الجهاز الرسمي فهو مطالب بإنشاء لجنة عليا للطوارئ ، وأخرى عليا للتعويضات وإعادة الإعمار ، وعلى المالية أن “تسلخ جلد النملة” للتمويل الفوري لكل ذلك .
- على الجهاز الرسمي أن يعلن اليوم قبل الغد أن أولوية الحراك الجمعي هي لتجاوز المحنة لاسيما في المناقل ، وإغالة عثرة المنكوبين ، وأن لا يعلو صوت فوق تطبيع الحياة بكل مقتضيات الأمر .
- ضياء ؛ لا عليك أيها العزيز .. أهلنا في المناقل ؛ الواجب أن تهب الأمة بكل مكونها ويتكامل البذل
- لكن كيف اعزي نفسي عن هذا العجز ؟ .. عن هذا الحزن المالح ؟ ..