من أهرام البجراوية وحتى قاعة التأمين الصحي :
أرض الرجال والقمح والأهرام والذهب تستديم حفاوتها بالإعلام
سيف الدين البشير – عطبرة
مابين الدموع غداة غرق مركب أم الطيور منتصف سبعينات القرن المنصرم التي راح ضحيتها ما يقارب العشرين – إن لم تخني الذاكرة ، ووقتها كان لسان حال المكلومين :
نحنا العند عروضنا لئام وجبارين .
وبعرفنا الصبر يا ملكة صبَّارين .
إلى داخلية فريجون حيث نصب الذاكرة المربي الجليل الأستاذ علي صالح داؤود المدير الأسبق المتفرد لعطبرة الحكومية ، والأستاذ الزاهد العابد ابن كنور محجوب مصطفى صاحب التوقد الذهني الخارق والابتسامة المرسَّمة أزلاً على وجهه ، وحتى صرامة وسماحة د. محمد البدوي عبد الماجد ابو قرون والي ولاية نهر النيل بشعره الكث الأبيض وبيان المقاطع خلال مخاطبته ورشة الإعلام ، في كلمةٍ جسدت مفاهيمه ، وحيوية دوره ، وضرورات الرقي به ..
ثم رَيثُ وأناةُ وعلم الاستاذ مصطفى الشريف وزير الإعلام بالولاية وهو يضع الأطر العامة لإعلامٍ يرقى به الإنسان فيرقى بالإنسان ، وحتى بريق الذكاء في قسمات صلاح كركبة .. في كل تلك الغضون يبدو جلياً أن ثم عقداً نضيداً يمضي بنهر النيل نحو ذرا بلوغ الغايات ، وبكفها صولجان الفعل .
والسبت أخضر ، والسيارة تنهب الأرض ، وخلف المقود نزار الفتى الكهل ينثر كنانة تجلياته كمثقفٌ شفيف و”ود بلد” صميم .
هذه كبوشية بشوارعها الرتلة وبناياتها الحديثة ، ثم تغافلك اهرامات البجراوية تحدث عن ماضٍ يضع بصمته في دامر حمد . ومن هناك يتدفق العطبرة لتنام المدينة الرمز عند الملتقى ،وليجتمع عندها السودان بطول خطوط الحديد ، وزفرات قاطرات البخار تتنفس الصعداء ، تنقل الناس والبضائع في تثاقفٍ تحتاجه البلاد رافداً قوياً لإنضاج دولة الأمة .
الدعوة الكريمة كانت من مدير إعلام الولاية فتح الرحمن الطاهر النور الإعلامي الإداري الحذق ، وإشراف وزير إعلام الولاية مصطفى الشريف ومباركة الوالي ، لورشةٍ إعلامية قوامها محاضرتين ، واحدة يقدمها الخبير الاعلامي بروفسور سيف الدين حسن العوض حول قضايا النشر الإلكتروني ، والثانية يقدمها شخصي حول أخلاقيات مهنة الإعلام .
وتتكامل حبات العقد .. بروف سيف وشخصي من خريجي عطبرة الثانوية ومن هنا لم نكن ضيوفاً بل يدفعنا ماضٍ بجذور أشجار السلم المترامية على جانبي الطريق ، وحاضرٌ يجسده فندق قراند عند مدخل عطبرة ، ورسوخ صناعة الأسمنت بالولاية ، وفوق كل ذلك عزمات المتجردين في حكومة الولاية ..
عند جبال أم علي أطل البروفسور العالم عبد الله الطيب وهو يغادر الدامر نحو العاصمة :
تذكرتها إذ أزَّ للبين هادرٌ
له زفراتٌ ما تني تتصعدُ
أرى الصخر يبدو عن شمالي كأنه
قضاء الإله الرابض المترصدُ
ومن عن يميني رفرف النيل خلته
لماها أناديه ملحاً فيبعدُ .
فندق القراند أنيق بحسن الاستقبال وحفاوة العاملين المتماهية مع سماحة إنسان نهر النيل .. الحدائق رحيبة تغري بالأنس وبمجالس العمل وتضفي على من أمها نقاء التفكير وصفاء الذهن ، وبهو الفندق وحدائقه وأهرام البجراوية تحدث عن دارٍ رسخت السلام والوئام منذ آلاف السنين .. هو الوئام لا الإنكفاء أو الجمود وبذلك يحدثك هدير العطبراوي وهدير الماء الكهل الصبي .
وفي ليل السبت أو قل الأحد التأم الجمع .. الوزير الشريف ليس بدلالة الإسم وحسب ؛ بل وبسمت الثقة في النفس والسماحة والتواضع .. الاستاذ فتح الرحمن الطاهر بدقة الكلمات .. الاستاذ بدر الدين الممازجة بين قيم أهل البلد وضرورات الانضباط الإداري ودقة التنسيق .. الإعلامي الرفيع أحمد ابشر ببصمة التجريب وملاحقة الأحداث في ولاية حراكها ما بين ملوك مروي وحتى همة د. ابوقرون التي تقطع أنفاس الصافنات..
قبل أن يقرر موعد الورشة تمنيت على الاستاذ فتح الرحمن تأجيلها لما بعد العيد ، لكنهم كانوا حريصين على تمام خطتهم .. د. سيف العوض كان يرى أن رمضان ليس شهر التكاسل والخمول بل شهر الصفاء الذهني ، ثم أنني أذعنت لإجماعهم “وما انا إلا من غزية إن غوت .. ” ..
على طول الطريق من الخرطوم مرورا بشندي “المحفلة بي السمح” ظللت أنتفض حتى عصب الجنون فيما تتجاوز السيارة السهوب المنبسطة البور ، وقد تدثرت بشجيرات العشر والسلم والرِمِت ، وجميعها دلالات خصوبة التربة وعذريتها.. كيف جاز أن تتغافل عنها الحكومات السابقة ، وكان الأولى أن تُفلحُ لتأتي أكلها من كل زوجٍ بهيج ! ..
وفي فندق القراند عطبرة متسعُ لتذاكر ذلك مع زوار ما بعد التراويح من ليلة الأحد.. وعند مفتتح الحديث ونحن نتعارف هتفت ؛ لله در عصابةٍ ندامتهم يوماً بشط العطبرة .
قاعة التأمين الصحي الأنيقة المعدة للمناشط ذات الصلة كانت حفيةً بالإعلام ورسخت مفاهيم تكامل المؤسسات لبلوغ الأفضل .. الأعزاء في قيادة التأمين الصحي يستحقون التقدير مرتين ؛ مرةً لإنشاء هذا الصرح المنيف ، وأخرى أن أتاحوا للإعلام متسعاً في بهوٍ تكاملت عنده مطلوبات المناشط .
عند مدخل القاعة صباح الأحد التقيناهم ؛ مسؤلو الولاية بقيادة ابوقرون وفي حضور الضبط والربط وأناقة الكاكي من المدفعية عطبرة وشرطة الولاية ، والمؤسسات العدلية بكل أركانها ، ووزاراء الولاية وكبار المسئولين ، والإعلاميين أكاد أتبينهم في كل جمع متاح .. كلهم ، كلهم بكاريزما ليست بنت المواقع بل أنها طبعٌ مركوزٌ في جينة تكوين إنسانالولاية .. الحضور النسائي من بنات المقنعات كان مهيباً بكامل أنفة قيم الولاية ، شيئاً متوارثاً من لدن أخوات نسيبة وبنونة “هولنا تب” ..
القاعة غصت بهم وطلب الوزير الشريف من معاونيه جلب كراسي صغيرة نحو إجلاس الجميع .. قلت ؛ ربما أنها البداية ، وربما يغادروا وشيكاً فهم صيام ، لكن المقاعد احتفظت بقاطنيها حتى آخر مفردة وبذات حيوية وتفاعل البداية .. أي ولاية تلك ! ..
في الجلسة الأولى خاطب المحفل الفخيم كبير الولاية د. ابوقرون بعد أن مهد للأمر بكلماتٍ لا شأن لها بالهتاف وزير الإعلام مشخصاً ضرورات الإعلام وأهميته وهذا السجال ما بين متاح الحرية وكبح جماح الشطط ..
زهاء خمس ساعات جسدت قصة تطلع الولاية الرمز نحو الغد المنشود من لدن آثار الأولين وحتى العزمات الحية الماثلة .. قالت الولاية أنها سيدة الريادة وستظل .. شكراً لهم فهي النيل ذات العتيق المتجدد عبر تدفق الاتبراوي وتعاقب موجه بدلالات الأنفة والكرامة والتطلع .. لست محايداً تجاهها وتجاههم وتمثلت ؛
حباب جنياتك البزمو السمح لي فالِك
من هيبة ابحمد لاعن جُزُر شلالِك
حباب شندي ام نفل مرحب حباب حلَّالِك
المحروسة من زمن المكوك بي رجالك
ولنا عودة ..